حوار.. حول ما أثير من جدل بخصوص سلطة الإشراف على رؤساء كتابة النيابة العامة

قال الدكتور الحَسن العباقي، في حوار مع “إحاطة.ما“، إن حيثيات القول بأنّ توجيه وزير العدل للمراسلات بخصوص بعض الإحصائيات المتعلقة بالمساعدة القضائية مباشرة إلى رؤساء كتابة النيابة العامة، فيه مساس بصلاحيات رئيس النيابة العامة، لا تخدم مسار إصلاح منظومة العدالة في شيء، وادعاء مساس تلك المراسلات بصلاحيات رئيس النيابة العامة فيه الكثير من المبالغة، بل هو في نظرنا حياد عن التحليل الموضوعي لعدة أسباب.

ما رأيك باعتبار تجربتكم في القطاع حول ما أُثير أخيرا نقاش كبير حول مدى قانونية مراسلة وزارة العدل لرؤساء كتابة النيابة العامة بخصوص بعض الإحصائيات دون احترام السلم الإداري ؟

قبل الخوض في أيّ تفاصيل تتعلّق بهذه النازلة، لنا أن نتساءل عن أيّ تسلسل إداريّ نتحدث؟
لأنّ التسلسل الإداري المعلوم بالضرورة لدى العام والخاص، يُفيد بأنّ المسؤولين الإداريين بالمحاكم يُزاولون مهامهم تحت سلطة وزير العدل باعتباره الرئيس الأعلى للمؤسسة التي ينتمون إليها، ولا فرق في ذلك بين رؤساء كتابة الضبط ورؤساء كتابة النيابة العامة، ولا وجود لأيّ مقتضى في القانون يمنع رئيس المؤسسة من مراسلة مرؤوسيه بالوسيلة التي يراها الأنجع في تدبير شؤون المرفق، وهذه قاعدة عامة تشمل كلّ المسؤولين الإداريين بكلّ المصالح الخارجية وفي كل القطاعات وتُؤطّر علاقتهم برؤساء الإدارات التي ينتمون إليها، وهي مُستَمدة من مبدأ دستوري منصوص عليه في الفقرة الثانية من الفصل 89 من الدستور الذي وَضَع الإدارة تحت تصرف الحكومة باعتبارها المُؤهَّلة لممارسة السلطة التنفيذية.
المسألة الأساسية الثانية التي يتحاشى البعض الخَوض فيها أو على الأقل يَغضّون عنها الطرف، هي الحسم في الهويّة القانونية لهيئة كتابة الضبط، لأنّه من غير المقبول ولا المعقول أن نجد من يتحدّث بعد صدور النظام الأساسي الخاص بهيئة كتابة الضبط سنة 2011 بتبعيّتها للسلطة القضائية بشكل عام، أو تبعيّة شقّ منها لرئاسة النيابة العامة، لأنّ المادة الأولى منه حسمت بشكل قاطع في الموضوع حين نصت صراحة على أنّه: “تُحدث هيئة لكتابة الضبط بوزارة العدل”، ونُسطّر هنا على عبارة “بوزارة العدل”، ولمن لم تكفه المادة الأولى التي تحدّثت عن الجهاز ككل أضافت المادة الثانية مُقتضى يشمل جميع الموظفين حيث اعتبرتهم في وضعية عادية للقيام بالوظيفة بمختلف محاكم المملكة وبالمصالح المركزية واللاممركزة لوزارة العدل، وأكّدت -وهذا هو الأهم- على أنهم “يخضعون للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل التي تقوم بتدبير شؤونهم وفقا للمقتضيات التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل”، ثم جاءت المادة الثالثة للمزيد من البيان ولحسم أيّ جدل يمكن أن يفتعله البعض بخصوص هويّة هذا الجهاز فنصت على أنّ موظفي هذا الجهاز يمارسون “تحت سلطة رئيس الإدارة، المهام التي تدخل في مجال اختصاصهم بموجب النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، ويساعدون القضاء على أداء رسالته”، ورئيس الإدارة التي ينتمي إليها موظفو هيئة كتابة الضبط أيّا كانت مواقع عملهم، هو وزير العدل وليس غيره، ومن ثمّ، نؤكّد بما لا يدع مجالا للشكّ بأنّ الهويّة القانونية لهذا الجهاز محسومة ولا مجال للتشكيك فيها من أيّ كان وتحت أيّ ذريعة كانت.

لكن، بالرجوع إلى التنظيم القضائي الحالي للمملكة وخاصة الفصول 2 و18 و20 يتضح بأنه أعطى سلطة مراقبة كتابات النيابة العامة للوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك وليس لوزارة العدل وهو ما يترتّب عنه تبعيتها لهؤلاء ولسلطتهم الرئاسية.

إنّ كلامكم هذا يلامس جوهر الإشكال الذي ما فتئنا ننبّه عليه، والمتعلّق بالارتباك الحاصل في بعض النصوص القانونية التي تؤطر مجال اشتغال هيئة كتابة الضبط، والتي تكاد تجعله في مُفترق الطرق، وإنْ كان التأويل الذي ذهب إليه البعض مؤخّرا بعيدا عن الصواب في نظرنا، لعدّة اعتبارات، نُجملها في الآتي:
أولا: الفصل الثاني من التنظيم القضائي الحالي لا يُشير من قريب ولا من بعيد إلى سلطة المسؤولين القضائيين التابعين لرئاسة النيابة العامة على كتابات النيابة العامة ولا على رؤسائها، واكتفى بالحديث عن المؤسسات التي تتألف منها المحاكم الابتدائية والتي من بينها كتابات النيابة العامة، وهذا لا يُجادل فيه أحد، ومن ثمّ فالاستدلال بهذا الفصل على تبعية مؤسسة لسلطة مؤسسة أخرى مُجانب للصواب؛
ثانيا: إعطاء الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك حق مراقبة عمل بعض مكونات هيئة كتابة الضبط بالمحاكم، لا يعني بالضرورة أن تلك الأجهزة خاضعة لسلطتها وتابعة بناء على ذلك إلى سلطة رئاسة النيابة العامة؛ من جهة أولى، لأنّه لا وجود لأيّ موقعٍ من مواقع عمل هيئة كتابة الضبط يَستقِلّ هؤلاء المسؤولون القضائيون بمراقبته دون غيرهم، ومن ثمّ لا يستقيم البتّة الحديث عن التبعيّة لهم دون غيرهم؛ ومن جهة ثانية لأنّ هناك بعض مستويات المراقبة لا نجد لها أثرا إلا في النصوص أما الواقع فلا يعرف أية مراقبة من طرفهم، كما هو الحال بالنسبة لصناديق المحاكم وأعمال وحدات التبليغ والتحصيل؛ ومن جهة ثالثة لأنّ هذا المنطق لو صحّ، لَلَزِم عنه على سبيل المثال لا الحصر تبعيّة صناديق المحاكم لأجهزة المراقبة التابعة لوزارة المالية أو غيرها، ولَلَزِم عنه بذات المنطق أنّه لا يحقّ لوزارة العدل مراسلة المحاسبين العموميين بالمحاكم ونوابّهم إلا تحت إشراف تلك الأجهزة الخارجية التي لها حق المراقبة قانونا لكن دون أن يحول ذلك بين الوزارة الوصية وبين الموظفين الذين يُزاولون مهامّهم تحت سلطتها؛
ثالثا: نعلم جميعا، أنّ القوانين الجاري بها العمل تُخوّل للنيابة العامة مراقبة الكثير من المؤسسات والفئات المهنية، كما هو الشأن بالنسبة للمؤسسات السجنية ومراكز رعاية الطفولة وغيرهما من المؤسسات، بل وحتى العديد من مكاتب المهن المعتبرة ضمن مساعدي القضاء، فهل يعني هذا أن هذه المؤسسات لا يحق لها أن تُراسل رؤساءها أو أجهزتها العليا إلا تحت إشراف الوكلاء العامين للملك لدى محام الاستئناف ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية ؟
وهل يعني هذا أيضا أنّ كل هذه الأجهزة خاضعة لسلطة رئاسة النيابة العامة وليس إلى سلطة رؤساء المؤسسات التي ينتمون لها انتماء عضويا ؟
طبعا إنّ كلاما من هذا القبيل لا يستقيم لا في المنطق القانوني ولا في المنطق التدبيري.
رابعا: إذا كان الفصلان 18 و20 من التنظيم القضائي للمملكة يُعطيان حق مراقبة بعض مهام كتابات الضبط وكتابات النيابة العامة للمسؤولين القضائيين التابعين لرئاسة النيابة العامة، فإن نصوصا قانونية أخرى كثيرة تجعل هذا الجهاز خاضعا جملة وتفصيلا لسلطة وزير العدل ولتفيش ومراقبة وتتبع الأجهزة المركزية من داخل وزارة العدل، وعلى رأسها الفصل 87 من الدستور المشار إليه أعلاه، والنظام الأساسي الخاص لهيئة كتابة الضبط، المرسوم 2.10.310 المتعلق بتحديد اختصاصات وتنظيم وزارة العدل، هذا دون الخوض في النصوص التنظيمية من قرارات ومناشير ودوريات وكتب، فهي أكثر بكثير من أن يتسع لذكرها المقام.

ألا ترون أنّ ما تتحدّثون عنه ربما ينسجم مع مرحلة ما قبل استقلال السلطة القضائية واستقلال النيابة العامة أو بشكل مباشر مرحلة ما قبل صدور القانون 17.33 المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ؟

لا شكّ أنّ الحديث عن استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية لم يكن بالحدث الهيّن في التاريخ الحديث للمملكة المغربية، إلا أنه وبشيء من إمعان النظر في السياق العام، سنجد أن سياق تنزيل الدستور الجديد سنة 2011 هو نفسه سياق صدور القانون الأساسي الخاص لهيئة كتابة الضبط والذي حسم أيّ نقاش في هويتها والسلطة التي تتبع لها، ويبقى أمامنا صدور القانون 17.33 المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، والذي نُدلي بخصوصه بالملاحظات الآتية:
أولا: الإسم الذي قُدّم به هذا القانون لا ينسجم ما مضمونه، ويُوهم مَن اكتفى بقراءة العنوان دون الخوض في التفاصيل بأنّ جميع اختصاصات السلطة الحكومية بالعدل نُقِلت إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، وهذا طبعا غير صحيح.
ثانيا: بالرجوع إلى الفقرة الأولى من المادة الأولى من هذا القانون نجدها تحدّد مجال سلطة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض انسجاما مع ما جاء في المادة 25 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة والذي أكّد بأن هذا الأخير “يُمارس سلطته على قضاة النيابة العامة التابعين له بمختلف محاكم المملكة”، ولم تتحدّث عن كتابة النيابة العامة، وهو ما أكّدته ضمنيا الفقرة الثانية التي نصّت على أنّ قضاة النيابة العامة يمارسون مهامهم واختصاصهم وفقا للتشريعات الجاري بها العمل، وليس هناك أيّ نصّ تشريعي يجعل رؤساء كتابات النيابة العامة خاضعين لسلطة الوكلاء العامين للملك أو وكلاء الملك بالمحاكم، أما الاحتجاج بما جاء ببعض الرسائل الدورية أو المناشير فلا يستقيم بعد صدور النظام الأساسي الخاص بهيئة كتابة الضبط بناء على مبدأ تراتبية النص القانوني المنصوص عليه في الفصل السادس من الدستور، فتلك النصوص فضلا عن كونها ليست في مستوى هذا الأخير كي يُعترض عليه بمضمونها، فهي أصلا ليست نصوصا قانونية بل مجرّد نصوص تنظيمية.
ثالثا: حدّد القانون 17.33 بدقة الاختصاصات التي تم نقلها إلى رئيس النيابة العامة بمقتضى مادته الثانية، ولم يدرج ضمنا سلطته على موظفي كتابة الضبط الذين يزاولون مهامهم بكتابات النيابة العامة، رؤساء كانوا أو مرؤوسين؛ ويجب التمييز في هذا المقام بين “النيابة العامة” باعتبارها مهاما قضائية، وبين قضاة النيابة العامة باعتبارهم موارد بشرية مسؤولة عن تنزيل التعليمات والأوامر التي تدخل في إطار هذه النيابة التي يُمارسها الجهاز عن القانون وعن المجتمع؛ فكلّ هذا يدخل فيما أسندَ المُشرّع مهمّة الإشراف عنه إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض باعتباره رئيسا للنيابة العامة، أما موظفو كتابة الضبط بتلك النيابات فيبقون بموجب القانون تحت السلطة الحكومية المكلفة بالعدل.

لكن، هناك من يرى بأنّ علاقة رؤساء كتابة النيابة العامة بوزارة العدل لا تتجاوز تتبع الوضعية الإدارية لهؤلاء من حيث ترقيتهم وتأديبهم وانتقالهم وما إلى ذلك، وهذا يتعارض ما ذهبتم إليه.

الأمر هنا لا يتعلّق بمذاهب، بل بنصوص قانونية ينبغي التعامل معها بكل موضوعية وعدم تحميلها ما لا تحتمل، لذا فَحَصر مهمة وزارة العدل في تتبع الوضعية الإدارية لرؤساء كتابات النيابة العامة بمفهومها الضيق ، بعيد عن المقتضيات القانونية التي بسطنا القول فيها أعلاه، و لا يستند على أيّ أساس قانونيّ، وسواء أخذنا بعين الاعتبار النصوص التشريعية الجاري بها العمل، أو التوجّه العام للدولة والمُستخلص من مشاريع القوانين التي دخلت المسار التشريعي كما هو الشأن بالنسبة لمشروع التنظيم القضائي للمملكة ومشروع تعديل المرسوم 2.10.310 المتعلق بتحديد اختصاصات وتنظيم وزارة العدل، فكلّ ذلك يؤكد بأنّ إشراف وزارة العدل على موظفي هيئة كتابة الضبط بما فيهم رؤساء كتابات النيابة العامة لم يَطَله أيّ تغيير ولم يتقلّص مجاله بعدَ صدور القانون 17.33، وهو ما يجعلنا نستغرب من طرح الموضوع للنقاش بهذا الشكل الذي يستهدف في نظرنا وحدة جهاز قائم، له نظامه الأساسي، وله اختصاصات واضحة وإن كانت متناثرة هنا هناك، وله كافة المقوّمات لتطوير أدائه المهني والإسهام بكل فعالية في مشاريع إصلاح منظومة العدالة.

فما رأيكم في النازلة التي أدّت إلى فتح هذا السّجال في موضوع السلطة التي يتبع لها رؤساء كتابات النيابة العامة والقول بأنّ توجيه وزير العدل للمراسلات بخصوص بعض الإحصائيات المتعلقة بالمساعدة القضائية مباشرة إلى هؤلاء فيه مساس بصلاحيات رئيس النيابة العامة نظرا لارتباط هذا الموضوع بمساطر قضائية.

إن حيثيات هذه النازلة وتفاصيلها لا تخدم مسار إصلاح منظومة العدالة في شيء، وادعاء مساس تلك المراسلات بصلاحيات رئيس النيابة العامة فيه الكثير من المبالغة، بل هو في نظرنا حياد عن التحليل الموضوعي لعدة أسباب نُجملها فيما يلي:
أولا: موظفو كتابة الضبط ينتمون إلى هيئة واحدة تُمارس مهامها تحت سلطة وزارة العدل بمقتضى النصوص القانونية الجاري بها العمل، ولا يُستسَاغُ تَفْيِئَتُهَا بشكل يجعل منها قبائل شتى، فئة تابعة لوزارة العدل وأخرى تابعة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وثالثة لرئاسة النيابة العامة، ومن ثَمّ، فتمييز رؤساء كتابة النيابة أو حتى موظفيها عن غيرهم من داخل نفس الهيئة ليس له ما يُبرّره، والتذرّع بخصوصية مهامهم وبكونهم يساعدون المسؤولين القضائيين التابعين لرئاسة النيابة العامة في أداء مهامهم غير مقبول، لأنّ الجهاز بكلّ مكوناته يتم التعامل معه باعتباره مُساعدا للقضاء في أداء المهام المنوطة به، علما أنّنا نتحفظ عن هذا التقزيم لمكانته، لأنه في نظرنا جهاز قائم الذات يُزاوِل مَهامّا أصيلة لا يُمارسها غيره كي نعتبره مساعدا له.
ثانيا: اختصاصات رئاسة النيابة العامة محدّدة بمقتضى القانون، والفئات الخاضعة لسلطتها أيضا محدّدة بمقتضى القانون، ومن بينهم قضاة النيابة العامة والموظفون الذين يزاولون مهامهم برئاستها، وليس بكتابات النيابة العامة، وطلب وزارة العدل لإحصائيات تتعلق بالمساعدة القضائية ممن هم خاضعون لسلطته ليس فيه مساس باختصاصات أيّة مؤسسة أخرى، لما سبق بيانه سابقا من كون وزير العدل هو الرئيس الأعلى في السلّم الإداري الذي يتبع له هؤلاء؛
ثالثا: التلويح بخصوصية موضوع المساعدة القضائية وارتباطه بمساطر قضائية، فيه إيحاءات لا تستقيم وطبيعة مهام موظفي كتابة الضبط، لأنّ جلّ مهام هذا الجهاز مرتبطة بمساطر قضائية، ولا يَمسّ ذلك لا من قريب ولا من بعيد مجال تدخّل العمل القضائي؛ كما أنّ هذا التلويح يؤكد إغفالا شبه تام لاختصاصات وزارة العدل على مستوى تنزيل السياسة الحكومية في العدل، ولا يخفى أنّ الإحصائيات المتعلقة بالمساعدة القضائية، ترتبط بأمور تقنية لعلّ أبرزها ربط الغلاف المالي السنوي الذي تخصصه الدولة في مجال المساعدة القضائية بالاحتياجات الحقيقية لطالبي الخدمات القضائية ممن ليست لديهم موارد مالية، وهذا لا يمس باستقلال السلطة القضائية ولا باختصاصات رئاسة النيابة العامة؛
رابعا: حيثيات النازلة تؤكد بأنّ الهيئة المشتركة بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية والوزارة المكلفة بالعدل لم تُفعّل بعدُ بالشكل الذي يُسهِم في ترسيخ قيم التعاون والتوازن بين السلطتين، وخاصة على مستوى العلاقة بين رئاسة النيابة العامة ووزارة العدل، مما يُفرز بين الفينة والأخرى بعض الإشكالات الواقعية التي قد تُرخي بظلالها على مسار الإصلاح، خاصة فيما يتعّلق بآليات تحقيق النجاعة، وما إثارة موضوع احترام السلّم الإداري بخصوص علاقة وزارة العدل برؤساء كتابة النيابة العامة إلا حلقة ضمن سلسلة من الحلقات السابقة وجب إيلاؤها ما يكفي من الاهتمام داخل الهيئة المشتركة، كي لا تُصبح المحاكم مجالا لبسط نفوذ هذه السلطة أو تلك، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار الهويّة القانونية لهيئة كتابة الضبط ووحدة بنيتها.

علاقة بالموضوع، هناك من يرى بأن تبعية الإدارة القضائية للسلطة القضائية محسومة بمقتضى قرار المجلس الدستوري رقم 16.991 الصادر بتاريخ 15 مارس 2016 حيث جاء فيه: “لئن كانت الإدارة العمومية موضوعة، بموجب الفصل 89 من الدستور، تحت تصرف الحكومة، فإن الإدارة القضائية تتميّز عن باقي الإدارات العمومية بمساهمتها المباشرة في تدبير الشؤون القضائية المندرجة بطبيعتها في مهام السلطة القضائية”.

لقد وردت هذه الحيثية في سياق بتّ المجلس الدستوري في مدى دستورية المادة 54 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية التي نصّت على إحداث الهيئة المشتركة بين سالفة الذكر وأسندت لها مهمة التنسيق فيما له علاقة بالإدارة القضائية، ونستغرب من انتقاء هذه الحيثية دون غيرها كما نستغرب من توجيهها بعيدا عن تَوجُّهها الأصلي، لأنّ التأمل في تلك الحيثية يوضح بأن الذي يندرج بطبيعته في مهام السلطة القضائية هو تدبير الشؤون القضائية، وليس الإدارة القضائية كما يتوهّم البعض، فهذه الأخيرة مُجرّد مُساهم في ذلك التدبير حسب منطوق القرار، وهو ما تُؤكّده عدة حيثيات كالتي ركّزت على قيام النظام الدستوري للمملكة على التعاون والتوازن بين السلط، وتأكيد أخرى على أن مبدأ التعاون يقتضي عند الحاجة إقامة علاقات التنسيق بينها؛ كما يؤكّده قرار المجلس الدستوري بدستورية المادة 154 وعدم مساسها باستقلالية السلطة القضائية، رغم نصّها على التداول في شؤون الإدارة القضائية بين الوزارة المكلفة بالعدل وبين المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
إن ما سبق يدفعنا للوقوف عند حديث البعض عن وجود مُحاولة لاختراق السلطة القضائية عبر تبني مفهوم الإدارة القضائية، وهذا التّوجّه في نظرنا من شأنه أن يُفضي إلى المزيد من التوتّر بين مكونات السلطتين، لأنه لا ينسجم مع مقتضيات الفصل الأول من الدستور الذي جاء ليُرسّخ قيم التعاون والتوازن بين السلطات، كما لا ينسجم مع مقتضيات المادة 154 المشار إليها أعلاه والتي تُسلّم بأنّ مجال الإدارة القضائية مجال مشترك، ومن ثمّ وجب التنسيق فيه لتذليل كل صعوبات العمل التي قد تنشأ حوله؛ ولعلّ جعل عمَل الهيئة المشتركة تحت إشرافٍ ثنائي لكل من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية من جهة ووزير العدل من جهة أخرى، كافٍ ليضرب الغربة عن ذلك التوجّه، ويؤكّد بأن مفهوم الإدارة القضائية جاء لتقوية المشترك بين السلطتين وتعزيز الحكامة في تدبير المرفق العام الذي يقدّم الخدمة القضائية لكل من يطلبها.

Total
0
Shares
أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشورات ذات الصلة