الآثار المسروقة من ساحات الحروب.. جرح يحاول العالم وقف نزيفه

يؤدي ممر في مقر منظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) في باريس إلى مكتب متواضع به نباتات مزروعة في آنية وثلاثة مكاتب صغيرة أصبح غرفة العمليات في الحرب على الآثار المسروقة من العراق وسوريا.

وقالت ميشتلت روسل نائبة مدير إدارة التراث “اليونسكو ليس لديها خوذ زرقاء” مشيرة إلى رمز قوات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة.
وأضافت “نحن نعمل بثلاثة أفراد… فماذا تريد منا أن نفعل”.

توالت المشاهد من نهب تنظيم الدولة الاسلامية لمدينة نمرود الآشورية القديمة ومقطع الفيديو الذي ظهرت فيه تماثيل وأعمال نحت مدمرة في مدينة الموصل بالعراق ثم السيطرة على مدينة تدمر الاثرية في سوريا لتؤكد عجز العالم عن إنقاذ بعض من أنفس كنوزه الأثرية.

ومع رفض القوى الكبرى إرسال قوات إلى المنطقة وسع مقاتلو تنظيم الدولة الاسلامية نطاق دولة الخلافة التي أعلنوها في مواجهة القوات الحكومية المستنزفة ذات المعنويات المنخفضة في كل من سوريا والعراق.

ومن السهل تفهم توجيه أقصى الاهتمام لإخفاق العالم في وقف أعمال القتل اليومية والفظائع والأزمات الانسانية المتزايدة في البلدين.

غير أن عجز العالم عن تأمين المواقع التراثية من مجموعة من التهديدات يزيد المشاكل مستقبلا إذ أن ذلك يقضى على أبواب رزق مهمة قائمة على السياحة بالاضافة إلى أن الآثار تمثل مصادر لتمويل المقاتلين الاسلاميين.

وقالت روسلر التي شهدت خلال فترة عملها تدمير جسر موستار التاريخي في البوسنة الذي يرجع للعصر العثماني على أيدي القوات الكرواتية كما شهدت نسف قوات طالبان لتمثالي بوذا في باميان بأفغانستان عام 2001 “الوضع في سوريا والعراق لم يسبق له مثيل.”

ومع ذلك فإذا كان العالم قد اكتسب خبرة واسعة في التعامل مع الاعتداءات على المواقع الأثرية فإن السعي لوضع استراتيجية لمكافحة هذه الاعتداءات في غاية الصعوبة.

واحتلت اليونسكو في ظل رئاسة وزيرة الخارجية البلغارية السابقة ايرينا بوكوفا التي تتقن عدة لغات الصدارة في النداءات العالمية من أجل وضع حد لتدمير الآثار.

لكن مواردها محدودة لأسباب ليس أقلها قرار الولايات المتحدة عام 2011 وقف تمويل المنظمة بعد أن أيد الأعضاء الآخرون طلب الفلسطينيين الحصول على العضوية الكاملة فيها.

وعقد ما لا يقل عن ستة مؤتمرات دولية على مر السنين لحماية التراث. وانطلقت أجراس الانذار في قرارات مجلس الأمن وفي الاعلانات الصادرة عن رؤساء الدول والمتاحف الكبرى وعالم الفن.

غير أنه رغم إحراز بعض النجاحات في استرداد بعض القطع فما زالت هذه المساعي تواجه صعوبات بسبب تفاوت أساليب السلطات في الدول المختلفة والفشل في التعامل مع شبكات التهريب مباشرة ونقص المعلومات الأساسية عن السوق التي تتعامل فيها هذه الشبكات.

وقال جيسون فيلش الذي شارك في تأليف كتاب “مطاردة أفروديت” عن كيفية وصول الآثار المنهوبة في أيدي المتاحف العالمية “عندما تطرأ أزمة كهذه نشعر بضرورة التحرك. لكننا لا نعرف ماذا نفعل”.

* التحقق من الارقام

ومنيت المواقع الاثرية المشهورة في سوريا بأضرار جسيمة خلال السنوات الاربع التي انقضت منذ تفجر الاشتباكات من بينها تدمير تحف معمارية مثل السوق القديم في حلب.

غير أنه مع استمرار الحرب الأهلية برز خطر النهب.

ففي أواخر عام 2014 انقضت وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم على تأكيد عالم آثار يعمل بتمويل أمريكي أن تهريب الآثار أصبح ثاني أكبر مصدر للايرادات لدى تنظيم الدولة الاسلامية بعد مبيعات النفط. بل إن البعض قدر الايرادات بمليارات الدولارات.

وفي الوقت نفسه أظهرت صور التقطتها أقمار صناعية ونشرتها الحكومة الأمريكية وآخرون مواقع أثرية مثل مدينة دورا أوربوس الأثرية التي تعرف محليا باسم (صالحية الفرات) وقد تزايدت فيها الحفر من جراء عمليات الحفر للتنقيب عن الآثار خلال الفترة من منتصف عام 2012 إلى أوائل 2014.

ويعتقد بعض الخبراء أن أسوأ عمليات النهب تمت عندما كان الموقع تحت سيطرة الجيش السوري الحر الذي يحظى بدعم غربي وعربي فيما يشير إلى أن المشكلة متفشية وتؤثر في مواقع عديدة بغض النظر عن الفصائل المسؤولة عن المنطقة.

ورغم أن هذه الصور مازالت مقبولة كأدلة على أن السرقة تحدث على نطاق واسع فقد ظهرت شكوك في أسلوب حساب العوائد وأسس تقديراتها.

وقال ريتشارد ستنجل وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للدبلوماسية لعامة والشؤون العامة في مؤتمر عقد بمتحف اللوفر في باريس هذا الشهر “مازلنا نحتاج لفهم السوق نفسه”.

وعلى نحو مشابه تتحفظ منظمة اليونسكو. وتقدر روسلر عائد الايرادات لتنظيم الدولة الاسلامية بملايين الدولارات لكنها قالت إن المنظمة ليس لديها تقدير رسمي.

ومن الصعب عموما تقدير حجم السوق السوداء في أي سلعة وقد يتضح في النهاية أن النقاش جدلي.

غير أن الأمر يكشف عن استمرار نقص المعلومات المؤسسية عن تجارة يعتقد أنها تستغل شبكات تهريب لسلع أخرى مثل المخدرات بداية من دول مجاورة مثل تركيا ولبنان وانتهاء بالغرب.

ويعكس ذلك تفاوت التشريعات من بلد لاخر.

فقد صادقت نحو 130 دولة من أعضاء اليونسكو البالغ عددهم 195 دولة على أبرز اتفاقيات المنظمة لعام 1970 والتي تهدف لمنع التجارة السرية في الاثار. لكن روسلر قالت إن دولتين فقط هما الولايات المتحدة وسويسرا هما اللتان تنفذان الاتفاقية مباشرة.

وفي حين أن قرار مجلس الأمن التابع للامم المتحدة الصادر في فبراير شباط الماضي بشأن سوريا يحظر تصدير الآثار فلم تتخذ دول تذكر خطوات لحظر كل مبيعات الآثار السورية والعراقية مباشرة بسبب الضرر الذي قد يلحق بالأسواق الثانوية للقطع التي يبيح القانون تداولها.

وقال المتحف البريطاني هذا الأسبوع إنه يحتفظ بقطع أثرية لم يعلن عنها خرجت بطريق غير قانوني من سوريا وإن صورا نشرت على مواقع التجارة الالكترونية لأشكال من الحجر الجيري يعتقد أنها من تدمر.

لكن حتى الآن لم يظهر في دوائر الأعمال الفنية سوى عدد قليل من القطع فيما يشير للبعض أن المهربين يكررون الاسلوب الذي استخدم بعد حرب العراق عندما تم تخزين القطع المنهوبة لفترة من الوقت قبل أن تظهر دون ضجة في السوق.

وقال المؤلف فيلش إن مثل هذه الفترة من التهدئة يمكن أن يستغلها التجار في تسهيل دخول قطعة إلى عالم الفن المشروع وغالبا ما يتم ذلك عن طريق أحد هواة جمع القطع الفنية من الأفراد يتبرع بها لمتحف مقابل إعفاء ضريبي يزيد كثيرا عن ثمن شراء القطعة.

ويجادل آخرون أن وجود جامعي التحف الأثرياء المستعدين لدفع مبالغ طائلة لاقتناء كنوز مهربة صورة سينمائية أكثر منها أمر واقع. ويقولون إن الجهد الحقيقي يجب أن يكمن في اقناع المتعاملين ذوي النوايا الحسنة برفض أي شيء لا يمكن إثبات طريق الحصول عليه بما لا يدع مجالا للشك.

وقالت أليس فارين برادلي من شركة مجموعة استرداد التحف في لندن وهي شركة خاصة تدير قاعدة معلومات للآثار المسجلة إن كل شيء من التوثيق السليم إلى الفطرة السليمة مطلوب في تحديد ما إذا كان أصل قطعة فنية موضع شك.

وأضافت “هو ذلك الاحساس الداخلي عندما يعرض عليك شيء… أن تكون عليه علامات إزميل على سبيل المثال. فقد عملت بالآثار ولا أحد يستخدم الإزميل في التنقيب. بل إنك تعمل بأكبر قدر ممكن من الخفة.”

وأشارت إلى أن جانبا كبيرا من عمليات النهب يتم بسرعة وبأسلوب أخرق وبعد حلول الليل.

وجادلت فارين برادلي بأن وضع خطط للتأكد من منشأ القطع الأثرية يمكن أن يساعد من خلال إضعاف قيمة السوق لأي سلعة مشكوك فيها الأمر الذي يلغي الحافز المالي للنهب في المقام الأول.

وتتفق روسلر من منظمة اليونسكو مع هذا الرأي وتقول إن المنظمة تعمل مع داري المزادات كريستي وسوذبي لاقناع العاملين المحترفين في عالم التحف ألا يشتروا شيئا دون وثائق واضحة.

ويجادل فيلش بأن الأسلوب المباشر في التعامل مع المشكلة هو تزويد أجهزة إنفاذ القانون بالتمويل المناسب في الأسواق المحتملة مثل الولايات المتحدة وغيرها لمساعدة الجهود السرية في اختراق شبكات التهريب وإعداد الكمائن للامساك بزعمائها.

وأضاف “الضباط الاتحاديون تعرض عليهم قطع منهوبة من سوريا. لكن ليس لديهم حتى الموارد التي تسمح لهم بترتيب عملية للايقاع بالمجرمين.”

Total
0
Shares
المنشورات ذات الصلة