الخلفي في طنجة : السينمائي الخلاق و الإنتخابي الباحث عن الإرتزاق

مساء يوم الجمعة 26 فبراير 2016 ، أسرة السينما المغربية كانت حاضرة بمدينة طنجة ،الجميع ( أو تقريبا ) كان هنا ، من اجل إفتتاح سينمائي للمهرجان الوطني السينمائي في دورته السابعة عشر ، و الإحتفاء ببعض رموز سينما مملكة النور و العطاء ، وقبل ذلك الوقوف دقائق معدودات ، لكن غنية بالدلالات ، لتحية روح أحد اهم النقاد و أكثرهم وفاءا لقيم الفن و الإبداع ، الراحل عن دنيانا الفانية ، الناقد مصطفى المسناوي ..
حفل التأبين ، بدأ على إيقاع الذكريات ، ذكريات رجل مثقف ، نذر روحه للبحث و الكتابة ، و مناصرة القضايا الأكثر توهجا في مسار السينما المغربية و العربية ، و معها شهادات طالعة من قلب القاعة المعتمة ، القاعة المتوهجة بنور البهاء والحزن ، شهادات تمثلت في آهات حارقة و جمل بليغة شفافة عاكسة للحب ، الذي كان و لايزال ، يحمله كل صناع الفرجة ببلدنا لروحه الغامرة ، جمل من مثل: ” الله يرحمو و يوسع عليه ” أو ” الله اكبر، الله يرحمها روح ” أو ” خلا بلاصتو ” ..، بمجرد ظهور صورته على الشاشة الكبرى لقاعة سينما “روكسي ” ..
خروج الصحفي لحسن العسيبي من وراء ستار الخشبة ، و وقوفه المتهالك من شدة الحزن ، وقوف عكس مدى تأثره بهول اللحظة و عمق المسؤولية الملقاة على عاتقه ، مسؤولية إلقاء شهادة تلخص مسار الراحل و تنعي رحيله القاتل .. ، وقوف زاد اللحظات ثقلا و عمقا ، حيث ساد الهدوء و السكون كأن الطير فوق الرؤوس ..
الصحفي تكلم بإيجاز حكيم ، مصورا اللحظات الأخيرة لوفاة المصطفى على ارض الكنانة ، تصوير بارع للتفاصيل البسيطة لكن المؤلمة ، و تدبيج بليغ للعذاب النفسي و الروحي الذي عاشه رفقته و هو يشاهده يتالم و يتأوه و يرفع أصبعه بالشهادة ، مستقبلا الموت في خشوع الكبار ، و إيمان المؤمن الحق بأن الموت حق ..
العسيبي سرق من الجميع ، بشكل إنساني عميق ، البسمة التي كان كل واحد من ضيوف المهرجان ، يؤثث بها محياه و هو يلج باب قاعة الحفل ، أو يقف أمام فلاشات المصورين أو يلقي التحية على الاحبة القادمين ، سارق مفوه ، أنصف في نفس الآن الجميع، بحكيه و سرده لما كان يحلم بقوله كل الأصدقاء و الأخوة و الخلان في حق سيد الوفاء ، قول مؤثر رقيق و إحساس متفرد صادق و إيجاز بليغ…
لحظات الفرح ، ستتحول مباشرة بعد نزول الصحفي و صعود الوزير ، إلى قرح ، من خلال إرسال الرسائل و الفقاعات في كل الإتجاهات ، و إطلاق عبارات اللمز و الهمز و خفة الكلام ، عبارات التوسل و البكاء على الأطلال ، و إستخدام أسلوب الإنشاء و النكت ، خاصة النكتة المغربية الشهيرة الخاصة ، ” بسقوط الطائرة في الحقل ” ، و حكي ما لا يحكى في المواقف المؤلمة الحزينة ..، بدأ بشهادة ، او لنقل بشكل أوضح ، مقدمة متعجلة متهافتة عن مصطفى المسناوي ، الذي إشتغل معه كمستشار ، رغم أنه لم يكن يشاطره قناعاته السياسية و الإيديولوجية ، و إن كان يشاطره القناعة في خدمة البلاد و العباد ، خدمة أو خدمات قدمها الراحل بكل أريحية و حكمة و سعة صدر و أفق ..
الجمهور المتتبع لكلمة الوزير التي انتقلت ( الكلمة ) بسرعة البرق ، من الحديث عن الفقيد الغالي ، إلى استعراض العضلات اللفظية ، و إستخدام اللغة الخشبية ، في عد ما لا يعد من المنجزات الورقية ، و النفخ في وجه الكل بالشعارات العاكسة لهاجس الساسة و السياسيين ، الذين تفرض عليهم المهمات و الحملات الإنتخابية ، حضور الانشطة الثقافية ..
الوزير أطال و استفاض ، ناسيا أو متناسيا أن المحفل السينمائي الوطني لا يطيق حملته الإنتخابية ، محفل لن يتجرع مرارة إفساد الجو العام المؤطر للحفل و الدورة ، فبدأ الإستهجان و التململ و التعليقات الرادعة الصادرة من شباب المدينة ، تعليقات دفعته لإيقاف خطبته العصماء ، و توقيف طاحونة الماء عن الدوران أو إصدار جعجعاته الفجة ، جعجعات بلا طحين أو حتى طين ، فاستسلم للإرادة الشعبية و رضخ للتطلعات السينمائية ، فسكت و نزل من فوق المنصة ، بعد ان حوقل و بلسم و سلم و إستسلم ..
ما حدث خلال هذه الأمسية الباذخة ، أوضح بالملموس ، عمق الفرق بين الثقافي و السياسي ، مثلما رسم الحدود الواضحة و الفاصلة بين السينمائي الخلاق و الإنتخابي الباحث عن الإرتزاق ..
لروح مصطفى المسناوي نقول : سلاما سلاما ، مادامت ، حتى بعد رحيلها ، قادرة على التعريف بحبنا و عشقنا لجماليات الصورة و مباهج الحياة و ممعنة في فضح إنتهازية السياسة الفاقعة و الخطابة الرتيبة المملة الفجة ..

Total
0
Shares
المنشورات ذات الصلة