تلقيت عرضا من جامعة “بارد” في الولايات المتحدة للعمل كأستاذ زائر للأدب خلال فصل الربيع.. ” بارد” من أبرز الجامعات الأمريكية في الآداب والفنون ووظيفة أستاذ زائر للأدب شغلها في “بارد” كتاب عالميون كبار مثل شينوا اشيبي واورهان باموق وخوزيه ساراماجو. قبلت العرض ولما كان الوقت يوافق إجازة نصف السنة فقد جاءت معي زوجتى وابنتاي الطالبتان وقضينا شهرا في نيويورك ثم كان لابد أن أذهب إلى “بارد” بالقطار لأستلم عملي. وضعت حاجياتي في حقيبتين كبيرتين وحقيبة متوسطة للأوراق والكتب بالاضافة إلى مظلة. صعدت معي ابنتى إلى القطار لكي تساعدنى في حمل الحقائب وهناك قابلنا كمساري القطار.
سافرت مئات مرات في أنحاء العالم ولم أقابل شخصا برذالة هذا الكمساري وغطرسته. تعامل معنا باستعلاء بل انه ضللنا وجعلنا نجرجر الحقائب بحثا عن عربة الدرجة الأولى لأنه لم يخبرنا بمكانها. أخيرا وجدت مقعدي وودعت ابنتي وانطلق القطار، راقبت الكمساري فتأكدت لي عنصريته فهو يعامل الركاب البيض بلطف بينما يعامل غير البيض بوقاحة.
فكرت ان هذا العنصري قطعا من أنصار الرئيس ترامب وهو يعتبر كل من يحمل ملامح عربية ارهابيا محتملا. لو توقفت هنا و اكتفيت في هذا المقال بالشكوى من عنصرية الكمساري الأمريكي لربما أعجبت قراء كثيرين يعتبرون الغربيين جميعا كفارا وأعداء للاسلام والمسلمين، لكن الحكاية لها بقية، عندما وصلت إلى محطة جامعة بارد رحت أجرر حقائبي الثلاث ومعي المظلة فتعثرت ولم أتمكن من السير. هنا حدثت المفاجأة فقد وقفت راكبة سوداء وأخذت منى حقيبة وابتسمت قائلة:
– سأساعدك..
تقدمت بضع خطوات ففوجئت براكبة أخرى بيضاء تقف وتأخذ الحقيبة الأخرى مني. ساعدتني السيدتان حتى تمكنت من انزال كل حقائبي على رصيف المحطة ولم أتمكن من شكرهما بما يكفي لأنهما عادتا بسرعة إلى مقعديهما.
هذه الواقعة في رأيي تلخص حالة أمريكا اليوم. دونالد ترامب العنصري وصل إلى الرئاسة لأن نصف المحتمع الأمريكي عنصري مثله. ناخبو ترامب هم الأقل تعليما والأكبر سنا ويكثر فيهم الذكور البيض. هؤلاء يعتبرون امريكا بلدا للمواطنين البيض أساسا بينما الأجناس الأخرى أقل من الناحية الانسانية ومصدر قلق وخطر، هؤلاء العنصريون لم يتقبلوا اطلاقا وجود رئيس أمريكي أسود في السلطة لمدة 8 سنوات وكان ردهم على ذلك تصعيد ترامب العنصري. في نفس الوقت فان النصف الآخر من الأمريكيين معارضون لترامب ويعتبرون ان البشر جميعا متساوون وأمريكا في رأيهم ملك للمهاجرين جميعا وهم يعتقدون أن اقصاء أي انسان بسبب الدين أو العرق عنصرية مرفوضة وخيانة للمبادئ التي قامت عليها أمريكا.
عندما أصدر ترامب قرارا بمنع المواطنين من سبعة بلاد مسلمة من دخول الولايات المتحدة. شهدت أمريكا موجة عنيفة واسعة من الاحتجاجات اشترك فيها الجميغ بدءا من السيدة التي شغلت منصب النائب العام وأقالها ترامب إلى القضاة الذين أوقفوا تنفيذ قرار ترامب لأنه غير دستوري إلى رئيس جامعة بارد الذي دعا الأساتذة جميعا لاجتماع وأعلن انه يرفض قرار ترامب العنصري وان جامعة بارد تقف ضد أي محاولة لمنع المسلمين من دخول أمريكا، إلى وسائل الاعلام التي أبرزت الآثار الانسانية السيئة لقرار ترامب إلى مئات الألوف من المحتجين الذين تظاهروا في معظم المدن الأمريكية.. الغريب ان قطاعا عريضا من المحتجين على قرار ترامب ليسوا مسلمين..؟
ما الذي يدفع انسانا أبيض غير مسلم إلى التظاهر دفاعا عن حق المسلمين في دخول الولايات المتحدة بينما هو نفسه لن يتضرر اطلاقا؟!. الاجابة انه في المجتمعات الديمقراطية تترسخ عند كثير من الناس فكرة الضمير الانساني الذى يجعلهم يدافعون عن حقوق البشر جميعا بغض النظر عن اختلافهم عنهم…سيقول البعض أين كان هذا الضمير الانساني عندما ارتكب الجنود الأمريكيون انتهاكات بشعة في حق مسجونين عراقيين في سجن أبوغريب مثلا..؟ الاجابة اننى أتحدث عن المواطن وليس الحكومات الغربية التي تدافع عن مصالحها ولا تعبأ غالبا بحقوق الانسان. أضف إلى ذلك ان من كشف عن جرائم ابوغريب صحفيون أمريكيون ( كم صحفي مصري يستطيع ان يكتب عن انتهاكات منسوبة للجيش المصري .؟.) سؤال آخر لماذا يحرك بعض الغربيين احساسهم بالمسؤولية الانسانية نحو الآخرين بينما في العالم العربي لا يدافع أحد لا عن أبناء بلده أو طائفته..؟
الأسباب متعددة أولا اننا كعرب محكومون جميعا بديكتاتوريات عسكرية أو ملكية تسحق ارادة المواطن وكرامته اذا فكر في الاعتراض. المواطن العربي عاجز عن الدفاع عن حقوقه أساسا فهو لايملك ترف الدفاع عن حقوق الآخرين. المتظاهر ضد ترامب يعلم انه لن يقضي في السجن سنوات ولن يتعرض للتعذيب كما يحدث في مصر فهو يتظاهر مطمئنا لحماية القانون..كما ان الديكتاتوريات التي تحكمنا توهمنا بنظرية المؤامرة الكونية حتى تغطي فشلها وعجزها وتحيل من يعارضها إلى خائن وهي تخلط بين السياسة الخارجية لحكومات استعمارية وبين مواطنين غربيين عاديين ليسوا في عداء مع أحد. السبب الثالث ان فهمنا للاسلام ( وليس الاسلام نفسه ) يجعلنا أقرب للعداء لغير للمسلمين أو التوجس منهم في أفضل الأحوال. لا يتسع المجال هنا لاحكام الفقه التي تحقر غير المسلمين باعتبارهم كفارا وأعداء للاسلام. الضمير الانساني أرقى مايملكه الانسان لكنه لا يعبر عن نفسه الا في مجتمع ديمقراطي أما في الانظمة القمعية فلا يسمح للمواطن بالتعبير عن نفسه الا بمديح الديكتاتور أو بتشجيع كرة القدم.