لقد سبق لي، وأنا في حديث مع فاعلين في المجال السينمائي الفرنسي بمدينة سيدي سليمان، وأخبرتهما أنني سألقي مداخلة بباريس تحت عنوان “المغرب، مرحل استراتيجي للتنمية إلى إفريقيا”، وسألني السيد الفرنسي: هل تتحدث عن إفريقيا جنوب الصحراء؟، فأجبته أنني أتحدث عن القارة الإفريقية كاملة، وأن هذا الدور ممكن أن يلعبه المغرب بجدارة واستحقاق نظرا لمقوماته الجغرافية والسياسية والثقافية والاقتصادية والروحية.
وبالفعل، وبعد مرور أكثر من سبع سنوات على هذا الحدث، تابعنا كيف عاد المغرب إلى مقعده في منظمة الوحدة الإفريقية. إنها العودة التي اعتبر من خلالها الخطاب الملكي بالتاريخي. وتاريخيته تتجلى، من خلال تصريحات كل المتتبعين والخبراء، في مضمونه وتوقيته اللذان يمكن اعتبارهما تعزيزا وتجديدا لمفهوم القيادة الإفريقية والتحديات التي تنتظرها القارة السمراء. لقد تم تصنيف تصويت الأشقاء الأفارقة على هذه العودة كإشارة تعكس الإرادة الجديدة للمنتظم الإفريقي، وقيمة مضافة كبرى، ستعطي للقيادة الإفريقية توهجا جديدا، سيؤدي لا محالة إلى جعل خدمة شعوب القارة واقعا ملموسا. إنه وضع جديد، بمقومات جديدة أبرزت الحاجة إلى تقوية القارة مؤسساتيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، وبالوثيرة التي تسهل تحقيق التراكمات المطلوبة في مجالات الديمقراطية والعدالة والثراء والسلام والاحترام.
إن عودة المغرب، بعد العمل على تطوير علاقاته السياسية والاقتصادية مع عدد كبير من الدول الإفريقية منذ سنوات مضت، هو عودة بلد، بمقومات داعمة ومدعمة للوحدة الّإفريقية، تم استقبالها من طرق القادة والفاعلون الأفارقة بالتعبير الضمني عن إرادة خلق قيادة إفريقية جديدة تعطي صورة جديدة لمنطق الفعل الإفريقي وتفاعلاته مع التطورات الكونية. إنها الإرادة التي تطمح من خلالها الدول الإفريقية إلى إيجاد المخارج الملائمة، وبالسرعة المطلوبة، لآفات الفقر والجهل والمرض والفساد والاستغلال والتدهور البيئي. إنه الإيمان الإفريقي بالحاجة إلى تجديد منطق القيادة لجعل الفعل البشري والمؤسساتي بالقارة في مستوى ثرائها الجغرافي والترابي، قيادة قادرة على تجميع القوى الإفريقية وفاعليها ومواجهة رواد التفرقة والتشتيت مؤيدي النزعات الانفصالية.
بالفعل، لقد تابعنا مجمل التصريحات وهي تعبر عن ابتهاجها بالعودة المغربية، بحيث تم اعتبار توقيتها بمثابة نقطة محورية في التاريخ الإفريقي المعاصر، نقطة ستؤدي إلى تجاوز عقدة القيادة والزعامة التقليديتين اللتان ميزتا العمل الإفريقي منذ حصول دولها على الاستقلال، ليحل محلها التعاون الدائم في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والروحية. لقد كان خطاب جلالة الملك محمد السادس واضحا في هذا المجال، بحيث أبرز تقابل ضعف مبررات منطق عرقلة التعاون مغاربيا والمدلول القوي لعبارة “الوحدة الإفريقية”. في نفس الوقت، كانت التعبيرات الداعية لربط منطق الفعل بإفريقيا بالحكم الرشيد لترابها، والسعي إلى تقوية اندماج الفعل التنموي لشعوبها، وتلاحم شعوبها ومؤسساتها على مستوى البلد الواحد وعلى المستوى القاري، إشارة واضحة لميلاد وضع جديد بآفاق جديدة.
إن القارة الإفريقية تعبر اليوم بالفعل على وعي تام بتركات الماضي الثقيلة التي تواجهها، والتي ترجع جذورها إلى الاستعمار، وبتحديات المستقبل. إنها التحديات التي يجب أن تتجاوز اليوم إلقاء اللوم على الاستعمار لتبرير إخفاق العديد من الدول في شق الطريق في اتجاه التنمية الشاملة، واستمرار ضعف بنيتها التحتية، وارتفاع مستويات البطالة والفقر والجهل بها. إنها دعوات جديدة إلى الكف عن إلقاء اللوم على الاستعمار كذريعة من أجل تبرير التعويل على مساعدات الدول الصناعية، وعلى الدين الخارجي، لحل المعضلات المالية والاقتصادية والاجتماعية الوطنية.
إن تجديد النخب الإفريقية، ومسارات الانتقالات الديمقراطية التي عرفتها وتعرفها معظم دولها، جعل مطلب الاندماج في الاقتصاد العالمي لا يطيق الاستمرار في التماهي مع منطق التبعية والإحساس بالدونية والانهزامية، بل جعل الأصوات ترتفع من قلب القارة السمراء تطالب الدول الصناعية بالتعاون النزيه، والجاد والعادل بمنطق “رابح-رابح”، تعاون يجعل الشعوب الإفريقية يلامسون أهمية ثروات قارتهم الطبيعية والثقافية والمادية والروحية. إنه وضع جديد، وضع العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، الذي أبان على روح سياسية جديدة في العديد من الدول الإفريقية. إنها الروح الذي مكنت عدد من الاقتصاديات الإفريقية من تحقيق نمو تجاوز معدله خمسة بالمائة، وحقق البعض منها ضعف هذا المعدل. إنها العشرية كذلك التي أبانت عن ارتفاع الوعي السياسي عند شعوب القارة، الوعي الذي مكنها من ملامسة مزايا حقوق الإنسان والديمقراطية والحكم الرشيد، والتعبير بجلاء كون الأفارقة قادرون عن إدارة شؤونهم بأنفسهم.
إن عودة المغرب إلى المنظمة القيادية لإفريقيا، بيته الكبير، وفي هذا الوقت بالذات، هو في حقيقة الأمر، كما أشرت إلى ذلك أعلاه، حدث تاريخي بارز، لا يمكن أن يعبر إلا عن حاجة الأفارقة إلى إحداث ثورة في القيادة، قيادة قوية قادرة على تدبير التفاوض شمال-جنوب بمنطق نزيه يعتبر رفاه المواطن الإفريقي من الأولويات. وهنا، عند الحديث عن التفاوض أعني بذلك القدرة على إقناع فرقاء القارة في الشمال بربط حاجتهم إلى الموارد الطبيعية العظيمة لإفريقيا باستعدادهم لإعطائها القيمة السوقية العادلة، وإقناعهم بأهمية نقل التكنولوجيات لتصنيعها محليا، وتحويل ذلك إلى آلية للحد من الهجرة، ولصون كرامة المواطن الإفريقي. فجلالة الملك محمد السادس في هذا الشأن، وهو يخاطب القادة الأفارقة بنزاهة فكرية غير مألوفة في مثل هذه المحافل، كان واضحا في تلميحاته التي دعا من خلالها الأفارقة إلى استعادة إيمانهم بأنفسهم، والتعبير عن كونهم قادرون على شق طريقهم إلى الأمام بالثقة اللازمة في النفس، وبالتالي القدرة على تقوية هويتهم القارية. فإفريقيا لم تعد اليوم تلك القاعدة الترابية الزاخرة بالموارد الوحيدة للتصنيع في البلدان المتقدمة، بل أصبحت اليوم، بمؤسساتها الوطنية والقارية، قادرة على المطالبة بالمسؤولية والعدالة في التعاطي مع بيئتها الثمينة بأراضيها، ومناطقها الرطبة، ومواردها المعدنية والبترولية والغازية، وثروات بحارها ومحيطاتها السمكية، وأنهارها، وبحيراتها، وغاباتها الكثيفة، ومناجمها، وجبالها،….إلخ.
وإذ أعتبر التطورات التي يعرفها منطق قيادة العالم، والتحولات السياسية التي تعرفها الدول العظمى، والرجات التي عرفتها دول الجنوب، وعلى رأسها دول الشرق الـأوسط، مرحلة إستراتيجية في مسار تطوير منطق التفاعل ما بين الشمال والجنوب، أرى أنه حان الوقت للمنتظم الإفريقي أن يقول كلمته في مجال العلاقات السياسية والاقتصادية الكونية.