في اليوم العالمي للفلسفة.. “أم المعارف” حاجة إنسانية “طبيعية”

لا تحفل الفلسفة كثيرا بالأجوبة الجاهزة، بل إنها تعنى بطرح الأسئلة المناسبة. ولذلك ظلت هذه الفلسفة – التي كانت أما للمعارف في أزمنة مضت – حاجة إنسانية طبيعية، تدفع المجهود الذهني للإنسان – أينما كان – في اتجاه فهم العالم وإعادة اكتشافه.
والفلسفة، التي تحتفل بعيدها العالمي في نونبر من كل عام، نتاج جهد معرفي ضخم أثله فلاسفة رواد شغلوا، طوال حياتهم، بإعمال التفكير في قضايا الإنسان والوجود والقيم الإنسانية النبيلة، التي تعد جوهر هذا الوجود ومعناه.
وهي، بذلك، تأبى التصنيف المعرفي، وتقفز على الحدود الفاصلة بين الحقول العلمية والمعرفية، لتعانق الأفق الإنساني الرحب، بما يعنيه من بحث عقلاني، عميق ومتجرد، عن جوهر الظاهرة الإنسانية ومكنونها.
إن هذا النزوع العقلاني للفلسفة أفضى، كما يخبر بذلك تاريخ العلوم، إلى نشوء الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء وغيرها. وهي العلوم نفسها التي كانت مطية التكنولوجيا في فتوحاتها الراهنة من جهة تجويد حياة الإنسان في الصحة كما في التعليم والاتصالات والنقل والترفيه وهلم جرا.
ولا يخفى أن هذا النزوع العقلاني، إنساني في جوهره، يعلي من شأن الإنسان ودوره في الحياة ويوسع مساحات المشترك الإنساني، بما يولده من قيم التكامل والتضامن ووحدة المصير البشري. وهذا مطمح نبيل سعت الفلسفة جهدها، عبر تراثها الفكري الضخم، إلى ترسيخه في وجدان الإنسان وفي تفاصيل حركته على الأرض.
وليس ذلك فحسب، بل إن الفلسفة “تساعد على بناء مجتمعات قائمة على مزيد من التسامح والاحترام من خلال الحث على إعمال الفكر ومناقشة الآراء بعقلانية”، بحسب ما كتبت المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي، في رسالتها بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة.
ومن وجهة نظر اليونسكو، تعد الفلسفة كذلك وسيلة لتحرير القدرات الإبداعية الكامنة لدى البشرية من خلال إبراز أفكار جديدة. وتنشئ الظروف الفكرية المواتية لتحقيق التغيير والتنمية المستدامة وإحلال السلام.
إن عزوف الفلسفة عن الأجوبة الجاهزة والمنمطة يتساوق مع حرصها على حفز الوعي المنتج والحس النقدي، مع ما يقتضيه ذلك من إعمال التفكير الرصين دائما، والبطيء أحيانا، ما يتناقض مع منطق “الخبرة المعلبة” الناجمة عن منهجية “تقنوية” أفرزها تسارع وتيرة الحياة في العصر الراهن، حيث لا وقت للتأمل الهادئ، البعيد عن ضوضاء العالم وما يعتمل فيه.
وبالنظر إلى كل ذلك، “لا تزال الفلسفة تمثل، إلى اليوم، حصنا ضد ضيق الآراء ووسيلة لتنمية الحس النقدي إزاء الإغراق بالمعلومات الذي نشهده، وإزاء الخطابات المضيقة التي تسعى إلى إثارة البغضاء بين الثقافات”، وفق ما ترى السيدة أزولاي.
إنها “تدعونا إلى تجاوز حدود حساسيتنا ورؤيتنا الفكرية لبلوغ حرية أوسع أفقا”، تقول المديرة العامة لليونسكو على لسان الشاعر الكبير رابندراناث طاغور.
ما يعني،في المحصلة النهائية، أن الحاجة لا تزال قائمة إلى هذه الفلسفة، المنتجة للحكمة والباحثة عنها.

Total
0
Shares
المنشورات ذات الصلة