يقدم السيرك “شمسي” فرصة لأطفال شوارع مغاربة من اجل تطوير أنفسهم عن طريق تعلم فنون السيرك، وجعلهم معتمدين على أنفسهم. ويعتبر السيرك الموجود بالقرب من العاصمة الرباط نموذجا ناجحا لمحاربة هذه ظاهرة أطفال الشوارع.
كما اسمُها، تنشُر المدرسة الوطنية للسيرك “شمسي” دفء نورها على حياة شباب مغاربة في وضعية اجتماعية واقتصادية صعبة، إذ تحرص المدرسة الأولى والوحيدة من نوعها في المغرب والقارة الإفريقية على تكوين طلبتها وتدريبهم على فنون السيرك، هادفة إلى مدِّهم بشعاع أمل من أجل غد أفضل.
وبعيدا عن صورة السيرك التي ترسَّخت في الخيال الشعبي المغربي متمثلة في الألعاب البهلوانية والمغامرات الخطرة، تسعى المدرسة المغربية لتكوين طلبتها وفق أبجديات فنون السيرك العالمي المعاصر، إذ يستمر التكوين الاحترافي طيلة ثلاث سنوات ينتهي بنيل دبلوم “فنان السيرك منشط ورشات” أو “فنان السيرك تشخيص”.
لا يسعُ المارّين بمحاذاة “كورنيش” مدينة سلا (المجاورة للعاصمة الرباط)، بالقرب من حي “سيدي موسى” الهامشي، إلا التّطلُّع لخيمة باسقة شُيدت قريبا من بناية أثرية انتَصبت أمامها لافتة لوزارة الثقافة تقول إن هذه البناية، وبغضِّ النظر عن كونها مركزا للمدرسة الوطنية للسيرك “شمسي”، فهي تحمل اسما يعود لثلاثة قرون خَلَت، إنها “القصبة الاسماعيلية” أو “قصبة كَناوة”، لتكون الثقافة والفن نقطة مشتركة بين المدرسة والمكان المقامة عليه.
هدوء التاريخ وسكينته يلُفان المكان خارجا، لا يكسِره إلا حماسة الطلبة والطالبات وحركاتهم المتسارعة والمتناسقة داخل المدرسة، ما بين حركات خِفّة بارعة، ومشي على الحبال، تدريبات على مرونة الجسد وسلاسة خُطُواته، إذ تخضع أجسامهم الرياضية النحيلة لتدريبات مكثفة تحت ناظِريْ أساتذة مغاربة وأجانب داخل خيمة تدريب ضخمة تقع وسط الصَّرح العتيق الذي يُطل مباشرة على المحيط الأطلسي.
البدايات .. اجتماعية ثم احترافية
يعود زكرياء بنيمينة مدير الدراسات بالمدرسة الوطنية للسيرك “شمسي”، ولاعب سابق بالمنتخب الوطني المغربي للجمباز، إلى سنوات التأسيس الأولى قبل قرابة عقدين من الزمان، حين أنشأت “الجمعية المغربية لمساعدة “الأطفال في وضعية صعبة” السيرك عام 2000، باعتباره سيركا اجتماعيا يستهدف الأطفال والمراهقين المُشردين أو المنحدرين من أسر معوزة، ليتطور لاحقا ويصبح سيركا احترافيا بمواصفات عالمية.
لا يخفي المسؤول خلال حديثه لـ DW عربية، فخره بتحقيق المدرسة لأهدافها وعلى رأسها تخريج فنان بمستوى عالمي يتمكن من الاشتغال في محيطه الإقليمي، وبنجاح باهر لمهرجان “القراصنة” الذي تنظمه المدرسة بالمدينة مرة كل سنتين، والذي يكون بمثابة ورشة تكوينية صلبة للطلبة وفضاء محترفا يبرزون مواهبهم وقدراتهم من خلاله، ويُمكنهم من الظهور أمام الجمهور، ما يساعدهم على إكمال مشوارهم وخلق عروض فردية خاصة بهم.
فرص خارج المغرب
الفرص الاحترافية التي باتت توفرها “شمسي”، جعلتها نقطة جذب لكل الشباب الذين يحلمون بأن يصيروا محترفين في مجال فنون السيرك، ومحمد النحاس واحد منهم، ذلك أن رغبته في الاحتراف دفعته لتوقيف دراسته النظامية ومغادرة مقاعد الدراسة على مستوى الدار البيضاء والتوجه صوب سلا لمتابعة تكوينه بمدرستها.
رغم اشتغال النحاس البالغ من العمر25 سنة مع فرقة اسبانية، إلا أن حلم ولوج المدرسة الوطنية لفنون السيرك الوحيدة من نوعها بالبلاد لم يفارقه، وهو ما أصبح حقيقة تُوّجت بنيل دبلوم في فنون السيرك بعد ثلاث سنوات من التكوين، ليُكمل الشاب مسيرته المهنية داخل إحدى فرق السيرك الباريسية ويجوب معها دولا أوروبية وإفريقية عدة.
اليوم، يتمنى الفنان الشاب أن تمتد مسيرته ويستمر في إلقاء العروض إلى أن يتجاوز عقده الخامس أو السادس، ليمر إلى الإشراف على تكوين طلبة المدرسة، وفق ما قاله لـ DW عربية، وهو الذي اخْتلَجَه عشق السيرك وفنونه ليبدأ تدريباته الأولى على رمال الشاطئ دون أن يتجاوز الـ 15 من عمره.
ينظر الشاب لمستقبل هذا الفن بتفاؤل كبير، لافتا إلا أن الجمهور المغربي أصبح يتماهى مع العرض ومستواه، متابعا بالقول ” يكُنُّ المغاربة الكثير من التقدير للعروض متقنة الحركة والمتناسقة على مستوى الموسيقى والضوء، فما دام العرض احترافيا سينال إعجاب الحاضرين وقد يبحثون عنك لمدحك وشكرك، وهو ما يقع فعلا والعكس صحيح”.
فنانة السيرك .. جرأة مرفوضة
نظرة المجتمع المغربي قد لا تكون بِعين الرضا ذاتها حينما يكون فنان السيرك فتاة شابة، ويمكن أن تصطدم أحلام شابات شغوفات بفنون السيرك باعتراض الأسرة وأفراد العائلة قبل أن يمتد لباقي المجتمع، ما يفسر أعداد الطالبات المتابعات لتكوينهن على مستوى المدرسة إذ لا يتجاوز عددهن خمس فتيات مقابل 54 من الشباب.
من بين هؤلاء الطالبات الجريئات، بشرى قيوري ذات 19 عاما، والتي أصرت على تحقيق حلمها وولوج المدرسة والانطلاق بمسار تكويني ومهني احترافي رغم اعتراض عائلتها الشديد.
تحكي بشرى خلال حديثها لـ DW عربية، ” كنت مغرمة منذ طفولتي بالرقص والحركة، وبعد نضجي قليلا قررت ولوج مجال السيرك الذي أحب عالمه وأجد نفسي فيه”، تتذكر بشرى بفخر أول عرض لها أمام الجمهور، ” كان ذلك منذ شهرين ضمن عرض نظمته المدرسة الوطنية، تجاوب كبير وإيجابي، وتجربة أولى وجيدة” تقول المتحدثة.
إلا أن الرياح لا تأتي دائما بما تشتهي السفن، فبالرغم من كونه أول عرض لها بطريقة احترافية، إلا أن أسرتها لم تحضر، تستطرد الشابة متنهدة بنظرات أسى ” لم أخبرهم بموعد العرض حتَّى، لعلمي بموقِفهم المسبق مما أقوم به، يصعُب أن يقتنعوا”.
” أتمنى أن يحضروا مستقبلا لعروضي، سأكون سعيدة بذلك”، تتابع بشرى كلامها لـ DW عربية، ” وسواءً نِلت رضاهم أم لا، أسير في طريق ارتضَيْته لنفسي وأرغب في أن أكمله إلى النهاية، فأنا سعيدة بما وصلت له وأتعب لأحقق حلمي ولا تهمني نظرة المجتمع للفتاة داخل خيمة السيرك، يكفي أن أساتذتي يدعمونني رفقة زميلاتي الأخريات”.
لغة عالمية
لا تقتصر أهداف المدرسة على التكوين فحسب، بل باتت مصدر إلهام لعدد من الفنانين ممن يطمحون إلى رعاية طلبتها والاستعانة بمواهبهم ضمن أعمال فنية مسرحية واستعراضية، وهو تماما ما تقوم به المخرجة والممثلة السينمائية المغربية فاطيم العياشي التي تشتغل رفقة طلبة المدرسة في إطار الإعداد لعرض تعبيري يخلط بين السيرك والموسيقى والغناء ويحمل اسم “مسيرة”.
الفنانة المغربية أكدت لـ DW عربية، أنها معجبة بالعروض التي يقدمها الطلبة ما يعني تمتعهم بموهبة كبيرة وطاقات محترمة فضلا عن تحكمهم بأجسادهم بطريقة مذهلة ما يفتقر إليه الممثلون، ما يجعل لفنون السيرك لغة عالمية ومساحات إبداع شاسعة تمكنهم حتما من تغيير نظرة المجتمع التقليدية لفنون السيرك.