روى حجاج كيف أفلتت أيدي أقاربهم من بين أيديهم، وسط الزحام، في ذلك الصباح، الذي شهد حادثة تدافع الحجاج، في مشعر منى، والذي سقط فيه ما لا يقل عن 769 قتيلا، في أسوأ كارثة يشهدها موسم الحج منذ 25 عاما.
أنفقت السعودية مليارات الدولارات على تأمين الحج، الذي يعد أكبر تجمع بشري في العالم. وعلى مدى تسع سنوات، لم تقع حوادث كبرى في الحج، في ما اعتبر نجاحا، حظي بإشادة واسعة، بعد فترة بين عامي 1990 و2006 شهدت حوادث تدافع وحرائق كل عامين أو ثلاثة أعوام سقط فيها مئات القتلى.
غير أن التدافع الذي حدث، صباح الخميس الماضي، أثناء انطلاق أعداد غفيرة لأداء شعيرة رمي الجمرات، أثبت أن كل هذه الاستعدادات غير كافية لأكبر تحد في العالم، للسيطرة على حشد من البشر.
قال النيجيري داهيرو شيتو إبراهيم (37 عاما) “لم يكن هناك مهرب. كنت ترى آباء يتركون صغارهم، والمسنين لكي ينجوا بأنفسهم.”
وأصبحت إدارة السعودية للحج السنوي تمثل منذ عقود قضية خلافية في مناطق من العالم الإسلامي، مع تزايد أعداد الحجاج وبالتالي ازدياد المخاطر.
وأدت وفيات الأسبوع الماضي، إلى توجيه أصابع الاتهام هنا وهناك، وخاصة من جانب إيران، خصم السعودية الإقليمي. وبث التلفزيون الإيراني لقطات لموكب ينطلق عبر شوارع منى، في صباح الخميس، وقال إنه تسبب في إغلاق الشوارع. ويقول منتقدون للسعودية إن الكارثة ربما نتجت عن تدخل السلطات لوقف سير الحجاج من أجل إفساح الطريق لشخصية مهمة.
وتنفي السعودية ذلك بشدة، وتقول إن لقطات الفيديو غير صحيحة. وقال اللواء منصور التركي، المتحدث باسم وزارة الداخلية، إن الشرطة لا تغلق طرق الحجاج الرئيسية، وإنه لم تمر أي عربات بالقرب من موقع التدافع، في أي وقت، بعد الساعات الأولى من الصباح.
وتحدث شهود عن إغلاق الشرطة طرقا، رغم أنهم لم يستطيعوا ذكر السبب. ويعد إغلاق طرق في أحد المواقع إجراء عاديا، للسيطرة على حشود تتزايد، في موقع آخر.
وأشار مسؤولون سعوديون إلى أن التدافع ربما حدث لأن حشود الحجاج لم تلتزم بجداول معقدة، حددتها الحكومة، للسيطرة على حركة الملايين في موقع المشاعر.
والتحقيق الرسمي الذي أمر به الملك سلمان سيجريه مسؤولون سعوديون فقط.
لكن أيا كان السبب في حدوث عنق الزجاجة، فإن المأساة حدثت، في موقع لم يتم تحديده من قبل، على أنه من نقاط الاختناق، مما يوحي أن السلطات السعودية لم تول بعض جوانب تأمين الحج قدر الاهتمام الكافي.
* رمي الجمرات
عند منتصف ليل الأربعاء كان مليونا حاج قطعوا طريقا، يمتد 20 كيلومترا، إلى المزدلفة، وهي منطقة تمتليء بالحجارة إلى الشرق من مكة. هناك توقفوا ليجمعوا الحصى، استعدادا لشعيرة اليوم التالي، وهي رمي الجمرات الثلاث: الصغرى، والوسطى، والكبرى، استحضارا لما فعله النبي إبراهيم، حين رجم الشيطان، الذي حاول إثناءه عن الامتثال لأمر ذبح الابن.
ورمي الجمرات هو دوما أخطر شعيرة في الحج، إذ يتطلب درجة عالية من التنسيق، لضمان وصول الأفواج الضخمة للمكان، وخروجها منه، في الوقت المناسب، لإفساح الطريق لأفواج أخرى، عليها أيضا، أن تفسح المكان لغيرها في الوقت المناسب.
وخلال الفترة من عام 1990 إلى عام 2006 كان يحدث تدافع عند منطقة رمي الجمار مما تسبب في مقتل مئات.
والجانب الأكبر من المليارات، التي أنفقتها السعودية، على تأمين الحشود في موسم الحج، انصب على تطوير منطقة رمي الجمرات.. فتم توسيع الطرق، وأقيمت عدة طوابق، يتسنى منها رمي الجمار، كما زادت نقاط الدخول والخروج، لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الحجيج، وتأمينها. كما تتيح أنظمة المراقبة المتطورة، وكاميرات الفيديو، للسلطات السيطرة على حركة الحجيج، والتأكد من أنهم لا يصلون إلى الموقع على نحو أسرع مما ينبغي، قبل أن تغادره الأفواج التي سبقتهم.
ورمي الجمرات ليس نقطة الخطر الوحيدة. فقبل أن تتوافد الحشود على جسر الجمرات، تبيت في منى، وهي عبارة عن شبكة خيام كثيفة، في سفح واد ضيق، وتنقسم الخيام كل حسب جنسية قاطنيها.
وظل مصدر الخطر الرئيسي في منى لسنوات، يتمثل في احتمال اندلاع حريق في الخيام، يمكن أن ينتشر في المخيم، ويسبب تدافعا يودي بالحياة.
وأنفقت السلطات بسخاء على تطوير الخيام، وإقامتها، بمواد غير قابلة للاشتعال. لكن يبدو أنها لم تول السيطرة على حركة الحشود، هناك قدر الاهتمام الذي أولته لموقع رمي الجمرات نفسه.
وأعمال التطوير في منى صعبة، لأن الشعائر تقضي بأن يخيم الحجاج بها، في حين أنها تقع على مساحة صغيرة، تحيط بجوانبها المنحدرات الصخرية، وتقع على أطرافها مشاعر دينية أخرى.
وقالت كيث ستيل، أستاذة علم الحشود، بجامعة مانشستر متروبوليتان البريطانية، والتي ساعدت في إعادة تصميم منطقة الجمرات، بعد وقوع كارثة عام 2004، إنه ثارت انتقادات في ذلك الوقت بأن تطوير هذه المنطقة، لم يمتد ليشمل مناطق أخرى.
وأضافت “في الأنظمة المعقدة، التي تتدفق فيها الحشود، ذهابا وإيابا، إذا حدث تغير واحد في المسار، فإنه قد يسبب آثارا ارتدادية، تصل لمناطق أخرى… إذا تغير أي جزء في نظام يضم ثلاثة ملايين شخص فسيكون هناك خطر وقوع حادث كهذا”.
* أحاديث عن سد أحد الطرق
بعد أداء صلاة فجر الخميس، انطلق الحجيج إلى منى، وتفرقوا في مجموعات طوال اليوم لرمي الجمرات.
وفي الساعة التاسعة صباحا، حدث تدافع بين الحشود، في الركن الشمالي الغربي من المدينة، على الطرق المؤدية إلى جسر الجمرات. والتقى آلاف الحجاج عند نقطة التقاء الشارعين 204 و223.
وقال شهود عيان إنهم رأوا أفراد أمن يسدون طريقا يؤدي لمنطقة رمي الجمار، مع استمرار تدفق أمواج البشر على المنطقة. وقال آخرون إنهم حوصروا بين مجموعات الحجاج المتحركة في اتجاهين معاكسين.
وقال شهيد علي، وهو حاج باكستاني، عمره 50 عاما، “بدأت الشرطة تصيح فينا: توقفوا.. توقفوا. ثم شكلت سلسلة بشرية وأغلقت الطريق الرئيسي ولم تسمح للحجاج بتخطي تلك النقطة.”
وذكر آخرون أنهم رأوا أمتعة في الشارع، وهو ما يمكن أن يكون قد تسبب في سقوط حجاج ثم سقوط الحشود المتدفقة عليهم.
وقال أله ساماليا داباي يومبي، وهو حاكم منطقة في نيجيريا، شهد الواقعة إنه رأى جنودا سعوديين، وعربات عسكرية، تغلق أحد الطرق مما حال دون مرور مجموعته.
وخلفه ظل آلاف الحجاج يتوافدون على المكان، وهم لا يعرفون بأمر الطريق المغلق. وأضاف أن الناس بدأوا يتساقطون نتيجة الإنهاك، ودرجة حرارة، بلغت 47 درجة مئوية. قال “الحجاج كانوا أشبه بالسردين… اضررنا للقفز على جثث المتوفين للوصول إلى مكان آمن نسبيا”.
ويبدو أن السلطات لم تنتبه إلى أن التقاطع الذي يلتقي فيه طريق رئيسي بشارع جانبي يمثل نقطة خطر.
فالشارع 223 يخلو من الكاميرات التي قدمتها شركة كراودفيجن، وهي شركة بريطانية، تقدم تكنولوجيا تحليلية لمساعدة السلطات السعودية على الحد من مخاطر وقوع حوادث، بسبب التزاحم، في مشاعر الحج، حسبما ورد في رسالة أرسلتها بالبريد الإلكتروني.
وقال اللواء التركي، المتحدث باسم الداخلية، إن الشارع لم يخضع لمراقبة عن كثب، لأنه شارع جانبي، وليس طريقا رئيسيا، تمر به الأفواج من المزدلفة إلى جسر الجمرات. لكنه قال إنه يعتقد أن كاميرات منصوبة على طرق موازية تغطيه جزئيا.
* السيطرة على الحشود
للحج وزارة خاصة، تشرف عليه، وبها إدارة تعرف باسم إدارة التوجيه والتوعية، يعمل بها مطوفون يتعاونون مع الشرطة، في تنظيم تحركات الحشود الضخمة بجداول مواعيد منشورة في مختلف أنحاء منى بست لغات.
فإن حدث تأخر في مكان ما أبلغت الشرطة المطوفين الذين يكونون مسؤولين حينذاك عن إعادة جدولة التحركات.
ولمح وزير الصحة السعودي، خالد الفالح، إلى أن الكارثة نتجت عن عدم الالتزام بجداول المواعيد، وقال إن بعض الحجاج لم يتبعوا الإرشادات الموضوعة.
وقال حاج أفريقي، طلب عدم نشر اسمه، لأنه مازال على الأراضي السعودية، إنه كان ضمن مجموعة ضخمة متجهة صوب جسر الجمرات، تتحرك في شارع ينقسم إلى طريقين، يلتقيان مرة أخرى.
وقال “فوجئنا بعدد كبير من الحجاج يتحركون في الاتجاه المضاد لاتجاه من انتهوا لتوهم من رمي الجمرات، رغبة منهم في سلك طريق مختصر.” وأضاف أنه بعد قليل “تكومت الأجساد على الأخرى.”
وفي موقع ما من الحشد كان هناك والدا محمد عمر عارف، وهو شاب باكستاني من لاهور.
قال “كانت أمي تمسك بيد أبي لكن يدها أفلتت. وحين التفتت تبحث عنه كان قد سقط.
“لك أن تتصور شعورها في تلك اللحظة التي رأت فيها شريك حياتها يفقد حياته”.