أسابيع عدة ولم يخفت وهج حركة “السترات الصفراء” الاحتجاجية في فرنسا. ملامح هوية الحركة وطبيعتها لا تزالان موضع خلاف وتكهنات تصل إلى حد التضارب. ولكن ما دور أبناء الضواحي من العرب والمسلمين فيها؟
غازات مسيلة للدموع وإحراق سيارات وإغلاق شوارع وإقامة متاريس وتكسير واجهات متاجر ونهب محتوياتها. ما سبق ليس إلا جزءاً من المشهد الكامل في محيط جادة الشانزيليزيه العريقة وتحت قوس النصر في قلب “مدينة النور” وعشرات غيرها من المدن الفرنسية مثل بوردو وتولوز ومرسيليا ونانت. تأزم الموقف أجبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الخروج عن صمته وإعلان نيته التوجه للأمة بخطاب متلفز مساء اليوم الاثنين (10 كانون الأول/ديسمبر 2018).
للأسبوع الرابع على التوالي نزل متظاهرو “السترات الصفراء” إلى الشوارع. وذكرت وزارة الداخلية الفرنسية أن عدد المحتجين في أنحاء فرنسا بلغ بشكل إجمالي 125 ألف محتج يوم أول أمس السبت منهم نحو 10 آلاف متظاهر في باريس وحدها. وألقت قوات الأمن الفرنسية القبض على نحو ألفي شخص في أنحاء البلاد خلال الاحتجاجات، حسبما ذكرت وسائل إعلام فرنسية. وتم وضع أكثر من 1700 شخص رهن الاحتجاز. وقالت وسائل إعلام محلية إن عدد المصابين بلغ 264 شخصاً من بينهم 39 من رجال الشرطة.
طبقيّة “صرفة”
ويقول خبراء إن معظم ناشطي “السترات الصفراء” ينتمون إلى الطبقات الشعبية والوسطى ويرفضون السياسة الضريبية والاجتماعية لماكرون. كما أصيبت فئات أخرى مثل الطلاب والعمال والمزارعين بعدوى تحركهم في الأسابيع الأخيرة. أستاذ الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية في جامعة ليل الفرنسية، يونس بلفلاح، يرى أن العمود الفقري للحركة يأتي من الطبقة الوسطى: “الحركة احتجاجية مطلبية اقتصادية بالدرجة الأولى بدأت بالمطالبة بخفض أسعار الطاقة ثم فيما بعد رفعت الحركة سقف مطالبها إلى رفع القدرة الشرائية وتحسين مستوى المعيشة”.
ويضيف بلفلاح في تصريح لـ DW عربية أنها تحوي “موزاييك” متنوع من الشعب الفرنسي: شيوخ وشباب، نساء ورجال، منحدرون من المراكز والضواحي، أعراق ومعتقدات متنوعة. ومن هنا يصفها بلفلاح بأنها حركة “طبقية” (أفقية) وليست “هوياتية” (عامودية: دينية أو عرقية أو جنسية وغيرها).
وفي نفس الاتجاه يذهب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة السوربون خطار أبو دياب: “كان رأس الحربة في مرحلة معينة أقصى اليمين ثم انضم إلى الحركة أناس من أقصى اليسار ومؤخراً أصبحت خليطاً متنوعاً جداً يشمل كل الحانقين على السياسة الضريبية والرافضين لشخص ماكرون”. ومن هنا يعتقد أبو دياب في تصريح لـ DW عربية أنه يصعب تحديد هوية الحركة سياسياً ونسبتها لليمين أو اليسار.
ويرجع الباحث السياسي أبو دياب الحركة إلى ثلاثة أسباب: “الثورات الرقمية” و”الفراغ” في العمل السياسي بعد الانتخابات الرئاسية عام 2017 وسقوط صدقية الأحزاب التقليدية و”الفراغ” في العمل النقابي بعد تهميشها من قبل السلطة والكلام عن دكتاتورية النقابات. تراجع الحكومة عن رفع أسعار الوقود، وهو أول مطلب لـ “السترات الصفراء”، لم يؤدِ إلى احتواء النقمة على النخب السياسية والأحزاب التقليدية.
وتحدث وزير الاقتصاد برونو لومير للصحافيين أمس الأحد خلال تفقده متاجر قرب محطة سان لازار في باريس عن أزمة بوجوه ثلاثة، “أزمة اجتماعية” ترتبط بالقدرة الشرائية، و”أزمة ديموقراطية” مع تمثيل سياسي غير كاف، و”أزمة أمة” في مواجهة “انقسامات كبيرة”.
“تضخيم” و”مبالغة”
المختص في الشؤون الفرنسية يونس بلفلاح لا يعتقد أن مشاركة سكان الضواحي من العرب والمسلمين “رئيسية” أو فاعلة” على حد وصفه، مضيفاً أنه من الطبيعي أن يشارك بعضهم في الاحتجاجات كون مطالب الحركة عامة ولا تخص دين أو عرق معين. لا يعرف عل وجه الدقة عدد المسلمين أو العرب أو المغاربة في فرنسا؛ إذ أن الحكومة لا تصدر أية إحصائيات رسمية عن العقيدة الدينية أو الأصل العرقي لمواطنيها. ولكن تتراوح التقديرات بين أربعة وتسعة ملايين مسلم، ينحدر معظمهم من دول شمال إفريقيا ودول جنوب الصحراء الكبرى، هذا بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الفرنسيين المعتنقين للإسلام.
خطار أبو دياب يتحدث عن انخراط “تدريجي” لسكان الضواحي من المغاربة: “شيئاً فشيئاً أخذ سكان الضواحي من المسلمين والعرب بالمشاركة كغيرهم من المهاجرين كالبولنديين وبرتغاليين”، مردفاً أنه يتم “تضخيم” و”المبالغة” بالحديث عن مشاركة سكان الضواحي وإلصاق أعمال الشغب بهم. ويرجع أبو دياب ذلك إلى “جلد الذات” من قبل بعض المثقفين العرب، من بين عدة أسباب.
وجدير بالذكر هنا أنه اندلعت في نهاية 2005 اضطرابات في الضواحي التي يقطنها مهاجرون عرب ومسلمون. وبدأت تلك الاضطرابات في باريس وامتدت إلى ضواحي مدن أخرى وفرضت السلطات حالة الطوارئ. وصعّد وزير الداخلية الفرنسي آنذاك، نيكولاي ساركوزي، الموقف عندما وصف “مثيري الشغب بـ”الحثالة”. وبلغت حصيلة الشغب ما يصل إلى 10 آلاف سيارة محروقة وآلاف الموقوفين.
تصفية حساب مع الربيع العربي؟
يعتقد الباحث يونس بلفلاح أن المقارنة بين “السترات الصفراء” و”الربيع العربي” خاطئة، مشيراً إلى أنه لم يسمع بها إلا من قنوات عربية وأخرى ناطقة بالعربية. ويذهب إلى أنه يمكن تشبيه “السترات الصفراء” بحركة “احتلوا فرانكفورت” الألمانية و “احتلوا نيويورك” الأمريكية في 2011.
أما أبو دياب فيذهب إلى حد القول إن البعض يريد “تصفية” الحساب مع الربيع العربي، ناسين أو متناسين أن فرنسا “أم” الثورات. وقد انتشر فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لما قيل إنها “شرطية” فرنسية صرخت بعبارة “لا تخربوا وطنكم مثل العرب”. ليتبين بعد ذلك أن السيدة “متظاهرة” وأن الترجمة مزورة:
الترجمة الصحيحة للفيديو المتداول :
أولا” طلعت متظاهرة وليست شرطية!
ثانيا” بتهزأ الشرطة الفرنسية وبتقول لهم خلوا عندكم دم دول أهلكم وناسكم
ثالثا”وده الأهم مجبتش سيرة الربيع العربي ولم تقل بلاش تعملوا زي العرب مثل ما إعلام الكذب ترجمها بمزاجه#ارحل_ياسيسي
#السترات_الصفراء#فرنسا pic.twitter.com/yCdiq4Sv1q— Haytham Abokhalil (@haythamabokhal1) 9 décembre 2018
وبعد اكتشاف التزوير قامت قناة “روسيا اليوم” بحذف الفيديو من موقعها. الكاتب المصري المعارض علاء الأسواني علّق في حسابه على تويتر قائلاً إن روسيا “تكذب” لتشويه الثورة الفرنسية حتى لا يمتد تأثيرها إلى روسيا، حسب وصفه:
اولا هذه ليست شرطية وإنما متظاهرة ثانيا هي تتوجه للشرطة الفرنسية بنداء حتى لا يقمعوا المتظاهرين لأنهم يدافعون عن العدل وعن فرنسا ثالثا هي لم تقل اى كلمة عن العرب واوطانهم وكل هذه إضافات من وكالة الأنباء الروسية التى تكذب حتى تشوه الثورة الفرنسية حتى لا يمتد تأثيرها إلى روسيا . https://t.co/LmMLYe0HFZ
— علاء الأسواني (@AlaaAswany) 8 décembre 2018