جمال الخنوسي
يوم الاثنين 17 دجنبر 2018، انتشر خبر العثور على جثتين نواحي مراكش. كان الخبر شبه عاد.
بعد ساعات قليلة، تبين أن الجثتين لسائحتين أجنبيتين تم التمثيل بهما. أصبحت القضية تكتسي طابعا آخر ومنحت الوحشية التي تعامل بها المجرم أو المجرمون مع الضحيتين أهمية إضافية.
يوم الثلاثاء 18 دجنبر 2018، كانت الصدمة : اعتقل الأمن بسرعة أحد “الجناة” وتبين أن الواقعة عمل إرهابي مخطط له يستهدف البلد وأمنه.
في أقل من 72 ساعة اعتقل الأمن أعضاء الخلية الاربعة الذين بايعوا أمير داعش في فيديو مصور ووثقوا جريمتهم في فيديو وحشي.
بعد الصدمة، تبرز الرغبة في الفهم وتتناسل الأسئلة بسرعة : ماذا جرى؟ وكيف جرى؟ ولماذا جرى؟
فريق إحاطة / برلمان توجه للمدينة الحمراء بحثا عن الأجوبة.
كان الجو مشمسا، شمس خريفية دافئة والجبال المكللة بالثلوج في أفق مراكش تغري بنزهة أو رحلة جبلية. يوم الجمعة 14 دجنبر 2018 التقى أربعة أصدقاء يسكنون في أماكن متفرقة على هامش المدينة الحمراء: عبد الصمد إيجود، وعبد الرحمان الخيالي، ورشيد أفطي، ويونس أوزياد.
التقى الأصدقاء الاربعة في المحطة الطرقية بمراكش، حيث وصلوا على متن دراجتين ناريتين. خفف الجميع اللحية، أما أوزياد فقد كان أكثر إصرارا وحلق اللحية بشكل كامل. ترك الأصدقاء الدراجتين في المحطة عند حارس كما هي عادة العديد من المراكشين.
استقلوا طاكسي في اتجاه امليل على بعد 55 كلم، ثم بعدها ساروا على الأقدام في اتجاه الجبل حوالي 45 دقيقة حيث يمارس العديد من المغاربة والاجانب على الخصوص، جولات جبلية ورحلات يلتحم فيها المغامرون مع الطبيعة بمساعدة أبناء المنطقة أو مرشدين مختصين.
اختاروا مكانا استارتيجيا يراقبون فيه جيرانهم من محبي الرحلات، غير أن الأصدقاء الأربعة لم يكن هدفهم هذه المرة ممارسة صيد الطيور كما اعتادوا على ذلك، بل كانوا كالحيوانات المفترسة يتربصون بفريسة سهلة يفتكون بها.
حدد لهم عبد الصمد إيجود المواصفات : يجب ان تكون الفريسة من جنسية أجنبية، دون مرشد او مرافق ينتمي لابناء المنطقة ومن الأفضل أن تكون أنثى لتسهيل المهمة، فالذكور أكثر قوة ومقاومة.
أمير الظلام
لم يكن عبد الصمد إيجود شخصا عاديا، فهو معروف لدى مصالح الأمن. معتقل سابق أمضى سنتين بسجن سلا على خلفية قضية ارهاب حيث حاول الالتحاق بتنظيم الدولة الاسلامية “داعش”، واعتقلته مصالح الامن في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء في 2014 .
بعد نهاية المدة الحبسية التحق ببيت والديه ضواحي مراكش، واشتغل بائعا متجولا كما مارس مهنا مختلفة.
زادت المدة التي قضاها عبد الصمد في السجن تطرفا وغلوا، وتشبع أكثر فأكثر بالأفكار التكفيرية. فاستقطب مجموعة من العناصر لتكوين خلية جهادية، ونصب نفسه أميرا. حيث كان يخطب في الجلسات الدينية والمساجد العشوائية.
كان عبد الصمد إيجود يعيش على سطح بيت العائلة في عزلة تامة، حيث يمنع زوجته من الاختلاط بوالديه أو اخوته.
خلية الدم
ضمت خلية عبد الصمد إيجود، كلا من يونس اوزياد الذي يسكن بحي الغزوزية بمراكش والذي اشتغل بائعا للعسل والزيت قبل ان يتحول الى “البحث عن الكنوز”. كان دائم المواجهة مع زوجته وشقيقه بسبب عطالته وخموله. وعبد الرحمان الخيالي الذي يعمل سباكا ويسكن بدوار اللباغ التابع للجماعة القروية السويهلة، ثم رشيد أفطي، صانع كراسي من الخشب والدوم في محل الى جانب سكنه (البيت والمحل في ملكية والد زوجته) بدوار القايد الجماعة القروية حربيل. متزوج وله اربعة ابناء.
بالاضافة الى عناصر أخرى لكنها لم تكن منخرطة بالقدر الكافي الذي كانت عليه الأسماء المذكورة. مثل عبد اللطيف الدريوش الأب، والبشير الدريوش الابن اللذان يعملان في النجارة، ويقطنان دوار القايد الجماعة القروية حربيل حيث يسكن امير الخلية ورشيد أفاطي.
يوم الاحد 16 دجنبر 2018 رصد عبد الصمد إيجود فريسة مثالية : سائحتان أجنبيتان بلا مرشد ودون مساعدة محلية. جمع رفقاءه الثلاثة واخبرهم بما يجب فعله. نصبوا خيمتهم على بعد 800 متر من خيمة الضحيتين.
لكن عبد الرحمان الخيالي كان له رأي آخر، واخبرهم بأنه تراجع عن المشاركة في العملية. ورغم محاولات الأمير ورفاقه لم يتمكنوا من اقناعه فاخذ أغراضه وانصرف الى امليل ثم الى مراكش حيث أخذ دراجته النارية من المحطة وانصرف الى بيت والديه بالجماعة القروية السويهلة.
لم يمنع الامير وأتباعه تراجع عبد الرحمان الخيالي ونفذوا جريمتهم ليلة الأحد الاثنين 16 – 17 دجنبر 2018 فدبحوا بهمجية كبيرة الضحيتين اللتين اقتحموا عليهما الخيمة بين منتصف الليل والواحدة صباحا.
الرعب
صباح الاثنين عثر على جثة الضحيتين المنكل بهما سائحان فرنسيان ومرشد من المنطقة. أصابهم الرعب بهول ما شاهدا: الدم في كل مكان. جثة بالقرب من حائط الى جانب رأس مقطوع، وداخل الخيمة جثة ثانية مذبوحة.
نزل الثلاثة مذعورين للتبليغ، حيث استمع لهم درك أمليل. وانطلقت التحريات للبحث عن الجاني أو الجناة.
الشيطان الأخرس
إلى جانب رجال الأمن الذين انتقلوا الى مكان الجريمة بكثافة، أظهر سكان المنظقة تعاونا كبيرا. فقد كان هول الصدمة كبيرا. وقدم المرشدون الذين يعرفون المنطقة الوعرة كما يعرفون بتفاصيل يوتهم، معلومات ومعطيات قيمة لرجال الأمن الذين ربطوا بسرعة بين الاصدقاء الاربعة والجريمة.
انتقلت الكلاب المدربة إلى المكان الذي حط فيه الجناة خيمتهم حيث تم اكتشاف بطاقة التعريف الوطنية الخاصة بعبد الصمد إيجود، و”طقية”. وكان الحس الكبير الذي يميز الكلاب المدربة تنتقلها مباشرة بين خيمة الجناة وخيمة الضحيتين.
صباح يوم الثلاثاء 18 دجنبر 2018، ألقي القبض على عبد الرحمان الخيالي، الشيطان الأخرس حيث اقتحم رجال الامن بيت والديه في السادسة صباحا. لقد كان على علم بالمخطط وعاد ليكمل حياة عادية في الوقت الذي كان أصدقاؤه يذبحون الأبرياء في الجبل. لقد صور فيديو مبايعة البغدادي، أمير داعش، في بيته قبل أسبوع من تنفيذ العملية. لكن الخوف من انتقام عناصر الخلية دفعه لالتزام الصمت.
تقول المعطيات المتوفرة أن علاقته بزوجته كانت سيئة جدا، وبينهما خلافات كبيرة لدرجة أنه عندما أجهض حملها لم يعرها اهتماما. كما كانت في خلاف دائم معه، لأنها كانت تدفعه للعمل والتخلي عن عطالته الدائمة.
تمر وشوكولاطة
بعد تنفيذ الجريمة، ترك القتلة المكان متجهين الى إمليل سيرا على الأقدام، ثم أكملوا مسيرتهم الى أسني حيث ركبوا طاكسي في اتجاه مراكش حوالي السادسة صباح. خلال تحركاتهم على مدى خمس ساعات رصدتهم بعض الكاميرات المتبتة خارج بيوت أو محلات تجارية. لسوء الحظ لم تكن الصور واضحة نظرا للظلام الدامس ولحالة الكاميرات المتربة.
أخذ عبد الصمد إيجود ويونس اوزياد ورشيد أفطي الدراجة النارية وركبها الثلاثة متجهين الى تمنصورت ضواحي مراكش (حوالي 15 كلم). لكن وسيلة النقل لم تصمد طويلا، وأصبحت الدراجة غير صالحة للاستعمال، فتخلصوا منها، وهام الثلاثة في هوامش المدينة يقتاتون من التمر والشوكولاطة، ما يمنحهم القوة والطاقة، ويشربون ماء الآبار المتناثرة، وينامون في البيوت الطينية المهجورة بعيدا عن العيون الأمنية على مدى ثلاثة ايام (الاثنين والثلاثاء والاربعاء).
أقام الأمن حراسة مشددة على بيوت المشتبه بهم، الذين يتصل افراد عائلاتهم بهم لكن لا مجيب. “انقطعت اخبارهم منذ الجمعة”، يقول الجميع.
صباح الخميس، انتقل الثلاثة الى المحطة الطرقية بمراكش بعد أن تملكهم التعب والجوع الشديد. فركبوا حافلة في اتجاه أكادير حوالي السادسة صباحا.
أخد رشيد أفاطي بعض الأكل والتذاكر بما لديه من مال، وحسب المعلومات المتوفرة فقد جمع 3000 درهم من تجارته، ترك منها 800 درهم لزوجته ومول مصاريف العملية الارهابية بما تبقى (2200 درهم).
استلقى الجميع على الكراسي المريحة في الدفء، وغادرت الحافلة المحطة. لكن، على بعد أمتار، أوقفها رجال الأمن قرب مركب تجاري (أسواق السلام)، حيث كثفوا الأبحاث والعمليات التمشيطية في الطرق ومحطات الحافلات والطاكسيات ومحطة القطار. أثناء التحقق من هوية بعض المسافرين، تبين أن المبحوث عنهم موجودون في الحافلة، وأوصافهم تؤكد أنهم عناصر خلية شمهروش.
اعتقل الجناة بعد رحلة هروب استمرت 72 ساعة.
ضدا في الارهاب
انتهت رحلة الهروب الكبير، وأصبح الجناة الأربعة فيما أصبح يعرف ب”خلية شمهروش” في قبضة الأمن.
لازالت حركة السياحة في إمليل نشطة جدا، وأغلب الزوار أجانب لم تمنعهم الجريمة من مواصلة برنامجهم: “مثل هذه الحوادث أصبحت جزءا من الحياة، وقدر يمكن أن يصيب الانسان في المغرب أو فرنسا أو أمريكا أو حتى أستراليا”، تقول سائحة في عين المكان.
وأكد أحد المرشدين المحليين بالقول : “لم نشعر بأي تغير في عدد السياح لكن الثقة تراجعت قليلا، ولم يعد أحد يرغب في قضاء الليل بالهواء الطلق دون مرشد أو حراسة”.
من الجحيم.. إلى الجحيم
كشفت التحريات أن الجناة الأربعة كانوا يترددون على إمليل من أجل اجراء التداريب البدنية والإطلاع على التضاريس والممرات الوعرة. فعندما تبين أن الذهاب الى سوريا والالتحاق ب”داعش” أصبح شبه مستحيل : أولا بسبب اليقظة الأمنية الكبيرة، وثانيا بسبب نهاية داعش في سوريا والعراق؛ تولدت لدى عناصر الخلية فكرة تنفيذ عملية في المغرب.
مصدر أمني صرح لنا أن عددا من المتشددين عليهم حراسة مستمرة في مراكش وغيرها، والجناة بدورهم كانوا تحت الحراسة باعتبارهم حملة للفكر التكفيري. “لكن، لم نكن نظن أنهم حاملون لمشروع إرهابي”. فقد تميز تواصلهم بحرص شديد : لا شبكات تواصل اجتماعي، لا دعوات للجهاد، ولا جهر بالانتماء أو النوايا. كانت حياتهم شبه عادية. يلتقون بدوار القايد أو في حي العزوزية عند أوزياد الذي كان يمتلك “تريبورتور” يحمل الجميع للضيعات المجاورة لصيد الحجل والحمام.
قبل أن يجمع الأربعة القتل والذبح، جمعهم الفقر والجهل؛ فجميع أعضاء الخلية ينحدرون من أوساط فقيرة، ودون مستوى تعليمي. لهم مشاكل مع عائلاتهم والوسط الذي يعيشون فيه، لدرجة أنهم يقاطعون المساجد والائمة.
كرهوا الجميع فكرههم الجميع. عاشوا في الجحيم وانتقلوا لجحيم أكبر.