من قال إن “الزين اللي فيك” فيلم عن الدعارة؟

مقاطع فيديو، إباحية وكلام ساقط، جنس وتهافت وإدانة.. وانتهى الأمر بالنسبة إلى الكثيرين. نصبوا المشانق في الشارع العام وبدؤوا ك”مغرقين” حذقين في استدراج مخرج اسمه نبيل عيوش، من السجن إلى المقصلة مباشرة، لينفذوا فيه حكمهم النهائي دون مرافعة أو دفاع كأنهم مالكو البيان الشامل والحكمة المطلقة.

لكن الحقيقة شيء آخر.. شاهدنا الفيلم وأردنا أن ننقل لكم صورة محايدة عن عمل فني يقبل أكثر من قراءة لمخرج يسع صدره كل وجهات النظر.. لنتناقش ونتحدث في السينما لأن من يحب الحياة يذهب إلى السينما.

Afficheبداية:

كانت القاعة صغيرة، جمعتنا نحن المحظوظون الذين سيشاهدون “العمل الفني الممنوع”. رفقة مخرجه ووالدته (اليهودية الصهيونية) وكما ردد ذلك نبيل عيوش بسخرية سوداء، تنتقد من تطاولوا على عائلته وهددوا سلامته.

فجأة ساد الظلام وانطلقت خيوط النور تتسلل لتصنع معجزة السينما.
الزين اللي فيك :

لم يصنع عيوش لشخوصة مقدمات، هي موجودة قبل الفيلم وباقية بعده. قفزت رندة وأخواتها إلى الشاشة وملأنها بإيقاع لاهث ومتناقض. الزين اللي فيك بورتريه لأربع عاملات جنس أو سفر قصير رفقة فتيات لم ينصفهن الزمن يخضعن لكل أشكال الاستغلال والابتزاز وكفى.

من قال إن “الزين اللي فيك” فيلم عن الدعارة؟

إنه فيلم عن المعانات الانسانية بشكل مطلق وعن القهر والاستغلال الذي يمكن أن يتعرض له الفرد سواء كان رجلا أو امراة أو شريحة مجتمعية برمتها.

إن المقاربة التي صور بها عيوش فيلمه صالحة لكل المهن ولكل الشرائح المجتمعية، وتصدق على الجميع لأنها مقاربة محايدة خالية من المحاكمة أو التوجيه أو النظرة الأخلاقوية للأمور.

وكما صور نبيل عيوش في وقت سابق عالم المشردين والمنبوذين في فيلمه “علي زاوا” سنة 2000، والمهمشين في حي سيدي مومن الذين فجروا أنفسهم خلال أعمال 16 ماي الإرهابية في “ياخيل الله” سنة 2012، صور اليوم كذلك مشردين ومنبوذين في “الزين اللي فيك” (2015) مع تغيير الفضاءات لكنها المعاناة نفسها والقهر ذاته.

muchloved2-cr-virginie-surdej
كاميرا لاهثة :

كان نبيل عيوش يصور “الزين اللي فيك” وهو يعلم جيدا أنه دخل عش الدبابير. وبأنه يقبض على الجمر باقتحامه عالم الدعارة المغلق. لذلك كانت كاميرا نبيل عيوش لا تتوقف عن الحركة إلا نادرا.. كاميرا متوترة ولاهثة تلاحق الفتيات الأربعة كما يلاحقن بدورهن لقمة العيش ويلهثن وراء الدولار الخليجي والأورو الأوربي. إن الفيلم سباق محموم نحو حلم لن يتحقق، نحو بديل عن التيه والضياع لن يأتي، وسباق مع الزمن خاسر مسبقا (عاملة الجنس تحس بالشيخوخة في 28 سنة لأن القاصرات سرقن منها السوق).
حكي :

إن فيلم نبيل عيوش ليس فيلما حكائيا ذي سرد خطي، بل يعرض لبورتريهات أربع عاملات جنس في حياتهن اليومية العادية والمهنية حيث برع عيوش في تقديم التناقضات المجتمعية من خلال التباين في كل شيء :

تناقض مجتمعي من خلال أم البطلة (لبنى أبيضار) التي تقبل على نفسها أموال الدعارة الوسخة وفي الآن ذاته تهاب نظرات الجيران والقيل والقال.

تناقض داخلي بالنسبة إلى الشخصيات الباحثة عن الحب والحنان فيما بينهن تارة والعنف المجاني الذي يسود علاقاتهن تارة أخرى.

وتناقض حتى في توليفة المونطاج حيث تتوالى المشاهد بين واقع البطلات الصادم الموغل في العهر والتفسخ وعلاقتهن الانسانية باعتبارهن أخوات أو أمهات..

وتناقضات في الزمان والمكان بين النور والظلام بين الليل والنهار بين القصور والفيلات الباذخة والصاخبة والأزقة الفقيرة الهادئة.

هذه التناقضات هي مفتاح الفيلم وأساس البناء الدرامي ل”الزين اللي فيك” ومن دونها لا يمكن فهم قوة مشاهد العهر ومغزاها: فالتطرف في تصوير المشاهد هو الذي يحقق التباين (Contraste) .

11194557_1450360411924879_7058276809525496268_o

بدايات :

بداية نبيل عيوش تعبر أكثر عن المخرج وعن اختياراته وقناعاته. فالمشاهد التي “صدمت المتلقي” اليوم ليست أمرا جديدا حيث أحدث فيلمه “لحظة ظلام” سنة 2003 رجة كبيرة دون أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه الآن. “لحظة ظلام” فيلم جريئ جدا من إنتاج القناة الفرنسية الألمانية “أرتي” كشف، رغم ضعفه السينمائي وحبكته السردية المهلهلة وضعف أداء أبطاله، عوالم جديدة وأعلن فيه الرجل أن إبداعه ليس له حدود بالمرة.

Capture d’écran 2015-05-11 à 19.37.48

تشويش:

كان للمشاهد الذي تم تداولها أو تسريبها على اليوتوب وانتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي أثر سلبي على كل المستويات. فإذا كانت المقاطع أو ما يسمى بلغة السينما “Teaser” لها هدف ترويجي ومحفز للمشاهدين من أجل مشاهدة الفيلم، فإن ما خرج من مقاطع عن “الزين اللي فيك” دمرت الفيلم كليا وأعطت صورة غير واقعية عن الفيلم لسببين :

أولا لأن بعض المشاهد المروجة في اليوتوب غير موجودة في الفيلم أو تم توظيبها بشكل مختلف. فهل يمكن محاسبة المخرج عن مشاهد لم يتبنها أو الكاتب عن رواية لم تطبع أو الصحافي عن مقال لم ينشر؟

وثانيا لأن الفيلم قائم على “الكونطراست” أو التباين بين المشاهد: تهتك وصخب ودعارة صادمة، وحياة “عادية” وهدوء وسكون ظاهري لمدينة صورها عيوش في صباحاتها الروتينية.. مفارقة شبيهة بمفارقة الليل والنهار.. النور والظلام.. حيث لا يمكن أن تفهم مشهد الغلو في العهر ورقصات “الطمانيتون” دون مشاهدة لقطة تجمع أبيضار مع طفلها أو أبيضار مع أختها. إنها تنائية الطاهر والوسخ التي يصورها عيوش بصيغة توثيقية دون طهرناية أو أخلاقوية.

MV5BMTg5NTY0OTk1MV5BMl5BanBnXkFtZTgwNDEyMjU2NDE@._V1_SX640_SY720_

فرص ضائعة :

في سنة 2006، قدم المخرج رشيد بوشارب رفقة الممثل الفرنسي المتحدر من أصول مغربية، جمال دبوز وسامي ناصيري، ورشدي زم، فيلم “أنديجان” حيث أحدث الفيلم صدمة كبيرة بخصوص دور “الأهالي” في تحرير فرنسا من قبضة النازية، وانتبه المسؤولون حينها وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى الوضعية التي يعيشها جنود شمال إفريقيا الذين دافعوا عن الحرية إلى جانب الفرنسيين، فكان النقاش الذي خلفه الفيلم سببا في إعادة الدولة الفرنسية الاعتبار لهؤلاء الأبطال، وراجعت قيمة التعويضات التي يحصل عليها الجنود وعائلاتهم.

هذا مثال بسيط على قدرة الفن والابداع على تغيير الوضع وخلق نقاش مجتمعي بناء بعيدا عن التشنج والعنف أو الآراء المسبقة. وبمنع وزارة الاتصال لفيلم نبيل عيوش “الزين اللي فيك” أضاع المغرب فرصة ذهبية كان من الممكن استغلالها لتحقيق أمرين مهمين :

أولا : التعامل مع الفيلم كدرس بيداغوجي للتعامل مع العمل الفني سواء كان رسما أو نحتا أو رواية.. والابتعاد بالتالي عن النظر إلى كل عمل فني من زاوية أخلاقية ضيقة. فرد الفعل المتشنج الذي واجهت به شريحة واسعة فيلم عيوش يعكس بالأساس نظرة لقسم من المجتمع للسينما وللعمل الابداعي عموما. فغياب تربية فنية تصنع التطرف في المواقف.

ثانيا : مناقشة ظاهرة اجتماعية من مختلف جوانبها باعتبارها مرضا خبيثا ينخر مجتمعنا ويخلف مآسي واستغلالا بشعا لشريحة ضعيفة تضم نساء في وضعية هشة، وأطفالا قهرتهم الحاجة والتشرد. فأصبحوا بضاعة لمصاصي الدماء وللوحوش التي تقتات من اللحم الطري.
أما الطريق الذي اختارته وزارة الاتصال فهو طريق المنع وإغلاق أبواب الحوار.. الذي يعلم المجتمع برمته أن للهمجية مكانا بيننا وأن المسؤولين يسمعون الصوت العالي ويمتثلون لمن يصرخ أكثر، وبأن الاعتداء على الآخر موقف والتهديد بالقتل وجهة نظر.

much-loved-1-cr-virginie-surdej
انتهازية السياسي :

كشفت المواجهة “الافتراضية” التي وقعت بين مساندي حرية الإبداع، ومن يقفون في وجه السينما والحرية، عن مواقف سياسية متباينة. وأظهرت أن الأحزاب التي من المفروض أن تأطر المواطنين وتجمع المناضلين حول قيم مشتركة تتعامل بمنطق القفز على المناسبات وتغيير المواقف والانتهازية التي تجعل رجل السياسة يتخلى عن قناعاته في أول منعطف.

فإذا كان موقف حزب العدالة والتنمية الذي يتغذى من مواقف حركة التوحيد والإصلاح واضحا بخصوص السينما، فإن حزب الاستقلال قفز على الضجة التي أحدثها الفيلم رغبة منه في سحب بساط “الشعبوية” المتزايدة والمتنامية من غريمه حزب العدالة والتنمية بإخراج شبيبته للشارع من أجل الاحتجاج بشكل “كوميدي” عن فيلم لم تشاهده تلك الشبيبة التي قال عنصر منها أنه “يحتج عن كل شيء” أو أنها “تحتج على فيلم لنبيل شعيل !”.

أما حزب التقدم والاشتراكية، الحزب الحداثي والتقدمي، المشارك في الحكومة فقد خرج أمينه العام نبيل بن عبد الله بموقف بهلواني : “يساند حرية التعبير ويساند منع الفيلم!”.

هي انتهازية كبيرة إذن من السياسيين ستدفع السينما فيها وحرية التعبير بشكل أوسع الثمن غاليا.

فيسبوك:

رغم فوائدها الكثيرة تبقى شبكات التواصل الاجتماعي لعنة حقيقية أسقطت الرؤساء وساهمت في “وهم الربيع العربي”، كما أنها أطاحب بوزراء “الكراطة” و”الكوبل الحكومي”. والآن هي قناة لتصريف خطاب طهراني مزيف وتجييش للخلق ضد عمل فني. ولو صدق ما تأتي به التغريدات أو النعيق الفيسبوكي لكانت شوارعنا خالية من العنف والتحرش ولما نهشت الكلاب لحم النساء ونالت من كرامتهن وعرضهن.

MuchLoved3
وماذا بعد؟

إن “الزين اللي فيك” ليس فيلما عن الجنس بل فضاؤه الجنس، وليس فيلما عن الدعارة بل فيلم عن الاستغلال.. الزين اللي فيك عمل فني يمكن أن ننخرط فيه أو نرفضه، نحبه أو نكرهه، لكنه أولا وأخير مجهود إبداعي يستحق منا كل الاحترام. أما غير ذلك فلغو وضجيج دون أي تصنيف.

Total
0
Shares
المنشورات ذات الصلة