المشهد الأول
في بهو فندق شالة، بمعشوقته طنجة، التقيت لأول مرة نور الدين صايل. كان أول حوار صحافي سأجريه مع قامة من حجم المايسترو لصالح جريدة “صوت الناس” التي توقفت عن الصدور.
قال لي حينها أستاذنا عبد الكريم الأمراني : “سير شوف سي نور الدين”، بلهجة فيها أمر وتحدي، كأنه امتحاني الحقيقي.. يرمي بي في بحر عميق لأتعلم الدرس الأخير في العوم.
جلست على حافة كرسي خشبي عتيق بذلك الفندق التقليدي انتظر قدومه. يلاحق السينيفيليون والمهنيون رجلا نحيلا، حتى أن وصوله إلي أصبح مهمة شبه مستحيلة؛ لكنه كان يتحرك بينهم بثقة وخفة.
كان من المفترض أن نقضي معا حوالي 15 دقيقة بالنظر إلى مشاغل الرجل، خصوصا مع حدث كبير هو المهرجان الوطني للفيلم. لكننا بقينا في تلك الزاوية قرابة الساعتين : حدثني عن السينما وعن الفلسفة : كانت له القدرة العجيبة للحديث عن كودار ونيتشه بنفس السلاسة والحماس.
تحدث عن السينما بحنو كبير.. أفكاره واضحة ومنظمة، حديثه جذاب وساحر وكأنك تقرأ كتابا ممتعا، أو تسمع سمفونية مغربية ينقش حروفها الموسيقية على الصخر.
المشهد الأخير
التقيته صدفة في مطعم بمدينة الرباط رفقة صديق مشترك مع بداية ظهور الفيروس اللعين. لم يتغير شيء في “سي نور الدين”. سأل عن أحوالي وأحوال أسرتي، وتحدثنا في السينما والفلسفة كما عادته. كان الفن السابع بالنسبة له قاموسا لكل الفنون والمعارف الأخرى. الأمر الذي تلخصه مقولة المخرج الياباني أكيرا كوروساوا : “السينما تشبه كثيرا الفنون الأخرى. إذا كانت خصائصها الأدبية بارزة، فلها أيضًا خصائص مسرحية، وجانب فلسفي، وصفات مستعارة من الرسم والنحت والموسيقى”.
بين المشهد الأول والأخير، توطدت علاقتي بالحكيم، وأصبح يحكي لي قصصه المرحة ونكاته التي تعكس إقباله الشديد على الحياة، ونظرته الثاقبة للأمور، وبعد نظره الشديد، وإيمانه بأن المستقبل أجمل وأفضل. كنا نلتقي معا على صفحات جريدة الصباح، كلما سنحت المناسبة، أو طرحت قضية سينمائية للنقاش. كان مفتخرا بطنجة ومهرجانيها الوطني والمتوسطي، ومؤمنا بخريبكة ومهرجانها الإفريقي.
خاض صايل المعارك بنبل كبير، وحصن السينما من الشوائب وتقلبات السياسة. دفع الثمن باهظا لأجل ذلك. لكنه بقي شامخا وعصيا ولم تنل منه السنون شيئا.. بل نال احترام الخصوم قبل الأصدقاء وأثبت الزمن أن الرجل كان محقا في كل شيء.
شكرا سي نور الدين.. لقد كنت أرى الأفلام ببصري وجعلتني أراها ببصيرتي.
شكرا سي نور الدين.. سنرفع دائما رؤوسنا لمشاهدة السينما ضدا على الفيروس اللعين، وضد كل النكوصيين. وسنتذكرك ونذكر سيرتك لأنها جزء من فرجتنا وحقبة من سينمانا .. ستذكرك سينما روكسي كما كل القاعات الأخرى التي لك فضل كبير عليها.
لن نجعل من حياتك فيلما بالأبيض والأسود حزنا على رحيلك، بل سيكون فيلما مرحا وعميقا بالألوان كما “La vita è bella” .. أو لم تكن دائم القول: “من يحب الحياة يذهب الى السينما”؟.. وأنت كنت عاشقا كبيرا لهما معا.