في وقت بدأ العالم يتنفس فيه الصعداء على حذر، مع بدء عمليات التلقيح المكثفة ضد فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، يبدو من الملائم استحضار الدور المهم الذي اضطلعت به الفنون في مواجهة حالة الإغلاق العام التي شهدتها عدد من الدول لتنفيس الضغوط التي خلقتها الجائحة، وتبديد المخاوف التي استبدت بالنفوس من رعب الموت الخفي الذي يتجول في الطرقات.
ومن بين الفنون التي لجأ إليها الناس في مختلف دول المعمور، منذ بداية الجائحة وفرض تدابير الحجر الصحي الشامل، برز فن الرقص باعتباره لغة جسدية يتحرر الإنسان من خلال مزاولتها من الضغوط المتراكمة عليه، ويتحلل بفضلها من شحنات القلق ومشاعر الحزن، لاسيما إذا كانت مرفوقة بإيقاعات سريعة وأغان تحتفي بتباشير الحياة في مواجهة نذير الموت.
ومن بين المشاهد التي ستحفظها ذاكرة الناس الذين عاشوا تجربة الحجر الصحي على الخصوص، تلك اللقطات التي يظهر فيها أشخاص يرقصون في شرفات منازلهم، والحصص التدريبية الراقصة التي لجأ مدربون إلى تقديمها افتراضيا لهواة الرقص، في احتفاء جماعي بالحركة والنشاط حتى وإن “احتجزتهم” الجائحة داخل أربعة جدران.
اللقطات الراقصة المحتفية بالحياة في مواجهة الفيروس خرجت، أيضا، من صلب المستشفيات، كما حدث في إيطاليا، التي ضربتها الجائحة بقوة، حين برزت أطقم طبية وتمريضية في مقاطع فيديو وهي تؤدي رقصات سريعة في أقسام (كوفيد-19)، مرتدية اللباس الواقي من الفيروس. مقاطع سرعان ما تم استنساخها عبر العديد من دول العالم منها ما وظف رقصات من الفولكلور المحلي، ومنها ما رقص على إيقاعات أغان عالمية، في إشارة إلى دور الرقص باعتباره لغة مشتركة بين بني البشر يوظفونها في لحظات الفرح والحزن على السواء.
هذا الدور الجامع للرقص أكده المخرج والكوريغراف لحسن زينون، الذي قال، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إنه من المسلم به أن “الرقص يوحد الناس والكلام يفرق بينهم”، معتبرا أن كل من يتابع عرضا راقصا يتفاعل معه وفقا لرؤيته الخاصة، فالرقص “يخاطب الجميع أيا كان مستواهم”.
ويضيف زينون أن الرقص طالما كان ملاذا للتنفيس عن هموم الناس والتعبير عن مشاعرهم، مستحضرا، في هذا الصدد، ما يحدث خلال اللقاءات التي تنظمها طوائف “كناوة” و”عيساوة” و”حمادشة” في المغرب مثلا، حيث يلجأ خلالها الرجل أو المرأة إلى الرقص على إيقاع الموسيقى في عملية تبدأ بحركات متباطئة قبل أن تتسارع الوتيرة تدريجيا وتستبد بهم الجذبة إلى أن يسقطوا أرضا. “أعتبر الرقص هنا نوعا من العلاج النفسي” يقول زينون.
على أن الرقص في زمن الجائحة مكن، أيضا، من التعريف بعادات الشعوب وتراثها عبر العالم، تماما مثلما حدث مع مقطع فيديو يحمل عنوان “رقصة التابوت” عرف انتشارا واسعا عبر شبكة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، يظهر فيها شباب من غانا يرتدون بذلات سوداء موحدة، ويحملون نعشا ويرقصون به خلال مراسم تشييع جثمان وفق إيقاع موحد. ويتعلق الأمر هنا بعادة أصبحت متداولة في هذا البلد الإفريقي تقتضي تحويل مشهد الجنازة من لحظة يخيم عليها الحزن إلى مناسبة للبهجة ي شيع فيها المتوفى إلى مثواه الأخير على وقع الفرح.
وتكريسا للدور الذي يقوم به الفن عموما، والرقص على الخصوص، في إشاعة أجواء الفرح، كان منظمو المهرجان الدولي للمسرح الجامعي للدار البيضاء، الذي التأم هذه السنة في دورة افتراضية بسبب جائحة (كوفيد-19)، واختتم فعالياته أمس الأحد، لجؤوا إلى إعادة “فرحة دكالة”، وهي عرض موسيقي أخرجه الفنان زينون سنة 2013، ويحتفي بتراث العيطة رقصا وموسيقى وأغنيات.
وفي تعليقه على تقديم هذا العرض للجمهور المغربي والعالمي، أكد زينون، في تصريحه للوكالة، أن عرض هذا العمل لا يمكن إلا أن يكون مفيدا للجمهور، ويشيع الشعور بالفرحة بينهم في هذه الظروف المتسمة بالوباء، معبرا، في الوقت ذاته، عن أمله في أن يجد هذا العمل طريقه للعرض على القنوات التلفزيونية الوطنية باعتباره يحتفي بتراث أصيل للمغاربة.
وفي ما يؤكد تحقق هذه الفرحة في صفوف الجمهور، كان أحد متابعي هذا العرض الموسيقي، الذي تم بثه على صفحة المهرجان على فيسبوك، قد علق بالقول “إن مصطلح الفرحة في عنوان العرض يكتسي دلالة خاصة في هذه الظرفية الخاصة بسبب (كوفيد-19) حيث يسعى الكل وراء الفرح الذي سيتحقق بزوال الحائجة”.
وكان زينون أكد، في تقديمه ل”فرحة دكالة” في كلمة ترحيبية بجمهور المهرجان، “بصفتي کوريغرافا ومخرجا، اكتشفت كنزا جميلا من تراثنا المغربي القابع في العلبة المظلمة، كنت مقتنعا بالعناصر الأولى المرئية، بعد أن نفضت عنها الغبار، وغربلتها، وأعدت إليها الحياة”.
وأضاف زينون أن هذا العرض يشكل “عملا مغربيا أصيلا، ولا وجود لأي عنصر أجنبي دخيل عليه في هذه اللوحة”، متوجها بالحديث إلى المتابعين “وكما ستلاحظون، فإن هذا العرض هو ترنيمة للحرية، حيث يبحث الفنان أولا عن التفتح باعتباره إنسانا، ثم عن موهبته كفنان”.
وفي السياق نفسه، حرص زينون على التأكيد، في تصريحه للوكالة، الحاجة لإيلاء مزيد من الاهتمام للتراث المغربي وللرقصات الشعبية بغرض الحفاظ عليه عبر تشجيعه والتعريف به في المناهج الدراسية.
كما أكد زينون على ضرورة النهوض بالتكوين في مجال فن الرقص بالمملكة، وعدم الاقتصار عليه كنشاط مواز فقط كما هو معمول به حاليا، معتبرا أن المطلوب اليوم هو توفير معاهد موسيقية في المدن تحتضن المواهب في الرقص منذ الصغر (سن 6 سنوات)، بشكل يصبح معه هذا الفن مدرجا ضمن مسار دراسي تتخرج منه مواهب تتخذ من الرقص مهنة لها.