فضاءات تخلى عنها الفن السابع، تلك هي دور السينما المهجورة في العديد من المدن منذ سنوات، والتي كانت في ما مضى تعج بعشاق السينما الذين كانوا يستمتعون بأفلام من كل الآفاق، وحاليا تحولت إلى أطلال تتجاذبها اعتداءات الطبيعة والإنسان على السواء.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، ما تزال فضاءات العاصمة الاقتصادية تحتضن أطلال بعض دور السينما المغلقة منها، ” السعادة ” و” فرح ” بالحي المحمدي، و” المسيرة ” بحي عادل، ثم ” الملكية “، ” الكواكب “، ” موريتانيا ” و” الزهراء” بمنطقة درب السلطان، فسينما ” الصحراء ” بعين الشق، إضافة إلى ” البيضاء ” بشارع محمد السادس، وبالجديدة، هناك دور ” الزهراء “، ” باريس “، ” الملكي ” و” مرحبا “، وفي ورزازات ( الأطلس / الصحراء ).
في هذا الحديث الصحافي يرسم الكاتب والباحث الجامعي عز الدين بونيت، مسارات التحولات الكبرى التي طرأت على دور السينما، ورمزيتها وذاكرتها، وكيف أغلقت، وسبل إعادة الحياة لها.
هل يمكن الحديث عن ذاكرة جماعية ورمزية تختزنها هذه القاعات؟
لا شك أن قاعات السينما ظلت لفترة طويلة خلال القرن العشرين، تشكل معالم حضرية بارزة في عدد من المدن المغربية، بل كانت تشكل أحد مميزات المجال الحضري مقارنة بالمجالين البدوي والقروي. حيث كانت من أهم ما يشد انتباه زوار المدن من القرويين، بل إن بعض القاعات السينمائية بعينها كانت قبلة للقرويين كلما زاروا المدن. وهذا يعطينا صورة عن المكانة المركزية لهذه الفضاءات في تشكيل صورة المدينة العصرية في مخيلة سكانها وزوارها على السواء، حين ظهرت كأحد الفضاءات العمومية إلى جانب المقهى في المدن العصرية المغربية منذ بداية العقد الثاني من القرن الماضي .
وبالإضافة إلى اقترانها، منذ ظهورها، بالوظيفة الترفيهية، بما كانت تمنحه من فرص لمشاهدة إنتاجات تخييلية مصورة تحمل قصصا من ثقافات بعيدة وأساليب تعبير ترتبط بتلك الثقافات تغذي مخيال مرتادي القاعات وأذواقهم في مجال الرقص والغناء وأنماط الحياة، القادمة من آسيا (الهند وهونغ كونغ) ومصر والولايات المتحدة وبعض دول أوروبا (ولا سيما فرنسا)، قبل أن يفتح ظهور الأندية السينمائية الأفق على سينما أخرى (الاتحاد السوفياتي، وأمريكا اللاتينية وإفريقيا).
بالإضافة إلى كل ذلك، انخرطت قاعات السينما بالتدريج في نشاط الحركة الوطنية وصارت مجالا لتحرك الوطنيين في الخمسينيات، ثم مجالا للمشاركة في التعبئة العامة بعد الاستقلال بالانخراط في القضايا الوطنية والقومية. وهذا ما نلمسه، من جهة، في المزج الحاذق الذي تمكن الوطنيون من إقامته، إبان الحماية، بين العروض السينمائية والعروض الهزلية التحريضية التي كانت تعرض على الخشبة في فترات الاستراحة بين الفيلمين .
كما نلمس هذا الانخراط، في إقرار رسم على تذاكر الدخول إلى القاعات السينمائية لدعم كفاح الشعب الفلسطيني من خلال الجمعية المغربية لمساندة كفاح الشعب الفلسطيني، وهو الرسم الذي ظل استخلاصه ساريا على أن تراجع الإقبال على القاعات السينمائية .
هكذا ظلت القاعات السينمائية في محور الضمير الجمعي المغربي، وفي صلب ذاكرة المدينة قبل ذاكرة الأفراد الذين كانوا يرتادون هذه القاعات. وارتبطت لدى هؤلاء الرواد بالقضايا الكبرى التي أشرنا إليها، وبأحداث أخرى لا تقل أهمية في مساراتهم الشخصية والمشتركة. فقد شهدت القاعات السينمائية احتفالات وطنية وإلقاء كلمات زعماء سياسيين ودينيين، كما شهدت أحداثا فنية بارزة لفنانين كبار قدموا عروضهم الحية على خشباتها.
هل من المعقول أن تظل هذه القاعات مغلقة بعد ان هجرها الفن السابع؟
هذا سؤال معقول، من الطبيعي أن يكون جوابي هو أن استمرار إغلاق هذه الفضاءات وهجرها يعد خسارة رمزية وفعلية مزدوجة، فمن جهة يصعب أن نتفهم كيف يمكن إهدار الكثافة الرمزية التي تشكلها هذه المعالم الحضرية وما تجره وراءها من تاريخ يشكل جزءا من لحمة الذاكرة الجماعية للمدينة، ومن جهة أخرى، لا يمكن تفهم حجم الإهدار العقاري الذي يشكله استمرار تعطيل استغلال عقارات ينطوي الكثير منها على غنى جمالي وملامح هندسية داخلية كثيفة، دون أن يكون هناك تفكير في ابتكار صيغ لتثمين هذه العقارات مع الحفاظ على حمولتها كمعالم حضرية من شأنها أن تمنح للأجيال الجديدة من ساكنة المدن نقط ارتكاز لا تقدر بثمن، ولا تظهر أهميتها إلا عندما تنفجر أزمات الهوية الحضرية، مثلما هو الحال في ظاهرة التطرف أو عنف الملاعب أو أعمال التخريب أو المواجهات الهوياتية المتشنجة… لهذا نعتبر ان التركيز على تنمية هذه المعالم وتجديد وظائفها التواصلية والوساطية يعدان من بين الطموحات التي ينبغي أن تكون مطروحة أمام أعين مسيري المدن.
كيف يمكن إعادة الحياة لهذه القاعات بطريقة مغايرة؟
أرى أن التعاطي مع ظاهرة القاعات السينمائية المهجورة ينبغي أن يبدأ بالنظر إليها باعتبارها مشكلة أزمة حضرية حقيقية، وليست فقط قضية تهم قطاع مستغلي القاعات السينمائية. بعبارة أخرى، نحن الآن لسنا أمام قاعات سينمائية مهجورة فقط، بل أمام معالم حضرية مهملة ومعطلة.. صحيح أن هناك مشاكل تتعلق بالعقار ومشاكل قانونية تتعلق بالاستغلال، لكن هذه المشاكل جميعها ينبغي ان تحل في إطار المنظور الشمولي الذي ينبثق من اعتبار هذه الفضاءات، مجالات للمدينة تشكل جزءا من ملامحها ومن ذاكرتها ومن دعائمها الرمزية، قبل ان تكون قاعات فقدت وظيفتها او عقارات في ملكية أصحابها.
وهي بذلك في مرتبة الآثار وغيرها من المعالم التاريخية. فهي ترسم حياة المدينة في القرن العشرين، وما عاشته من أحداث وشهدت عليه من محطات ووقائع تشكل جزءا من الغذاء الروحي الرمزي لساكنة المدينة يعزز الانتماء ويرسم الترابطات بينهم.
انطلاقا من هذه النقطة، يمكن الشروع في اقتراح برنامج مندمج، تسهم فيه المدن، باعتبارها صاحبة المصلحة العمومية الأولى، والقطاعات الحكومية المعنية بالثقافة والاتصال، باعتبارها الشريك باسم الدولة، وأصحاب العقارات والمستغلون باعتبارهم أصحاب المصلح المباشرة الخاصة. وذلك باقتراح صيغ للدعم تستهدف تمويل مشاريع لإعادة تأهيل هذه المعالم ليس للعرض السينمائي وحده أو بالضرورة، بل من اجل إعادة فتح هذه المعالم كفضاءات للقاء والتواصل وتأسيس وقائع ذاكرة جديدة للرواد الجدد مع الحفاظ على ضرورة إحياء الذاكرة القديمة والحرص على استحضارها ..
ولعل السؤال الذي يمكن أن يطرحه البعض هو هل نحن بحاجة إلى مزيد من الفضاءات الثقافية؟ والجواب الحجاجي البديهي عن هذا السؤال هو: هل نملك أصلا ما يكفي من الفضاءات الثقافية حتى نستمر في إهدار المقدرات التي بين أيدينا وإهمالها؟ القاعات السينمائية المهجورة هي فضاءات ثقافية كامنة مهملة، ما فتئت تتسع في ذاكرتنا الجمعية التي لا يحق لنا الاستمرار في إهدارها، بشكل غير مسؤول.