لا يمكن للمتأمل لخريطة أمريكا اللاتينية أن تخطئ عينه ذلك اللون الأحمر الذي باتت تتشح به، اللهم من استثناءات نادرة تظهر كنقاط صغيرة باللونين الأزرق أو الأصفر.
هكذا يبدو المشهد السياسي بالقارة اللاتينية نهاية سنة 2022 ، من غابة دارين على الحدود بين كولومبيا وبنما، إلى مدينة أوشوايا الواقعة في أقصى الجنوب في الأرجنتين.
سوف تتذكر كتب التاريخ هذه السنة على أنها شهدت عودة ظهور الحركات اليسارية في السلطة في غالبية دول المنطقة، والتي تحرص في الغالب على إقامة تحالفات مع الأحزاب السياسية المتمركزة في يسار الوسط، فازت بجميع الانتخابات الرئاسية التي تم تنظيمها في أمريكا اللاتينية في الأشهر الأخيرة.
أيقونة اليسار في أمريكا اللاتينية هو بلا شك لولا دا سيلفا، الرئيس المنتخب للبرازيل الذي هزم جاير بولسونارو في واحدة من أكثر الانتخابات تقاطبا في تاريخ عملاق أمريكا الجنوبية.
يمثل انتخابه نقطة تحول ليس فقط للبرازيل، ولكن لمنطقة أمريكا اللاتينية بأكملها. إنه يؤكد موجة انتصار اليسار التي لا يمكن فرملتها في جميع الانتخابات المنظمة في المنطقة.
كانت الطفرة الحمراء في القارة قد بدأت قبل عام من انتخاب الرئيس المخلوع بيدرو كاستييو في البيرو، واستمرت في الشيلي مع تولي غابرييل بوريتش السلطة، الذي أصبح، وهو البالغ من العمر 35 عام ا ، أصغر رئيس للبلاد و للمنطقة بأكملها.
في كولومبيا ، وضع غوستافو بيترو حدا للحكم المتواصل لليمين في هذا البلد الذي عانى من تهريب المخدرات وحرب العصابات لمدة ستة عقود. أصبح أول رئيس يساري للبلاد في يونيو الماضي.
في ثلاث دول أخرى مهمة بالمنطقة، سيطرت الحركات اليسارية على السلطة لما يقرب من ثلاث سنوات.
في الأرجنتين ، يستميت ورثة الموجة البيرونية الجديدة للاحتفاظ بالسلطة في عام 2023 ، على الرغم من العواقب الوخيمة للوباء والأزمة الاقتصادية الكارثية.
أما في بوليفيا، فبسطت “الحركة نحو الاشتراكية” (ماس) للرئيس السابق إيفو موراليس سيطرتها على البلاد لمدة عقدين من الزمن بعد أن سجنت منتقديها السياسيين ، ولا سيما الرئيسة بالنيابة السابقة جانين أنيز.
في فنزويلا، يشعر نظام نيكولاس مادورو بأنه بات أكثر انتشاء مع هذه الموجة اليسارية التي تجتاح القارة. القادة الإقليميون الجدد أكثر تساهلا معه عندما يتعلق الأمر بالانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان. إنه يشعر بقدر أقل من العزلة الدولية وأكثر جرأة في تفادي تنظيم انتخابات حرة.
في هذه الصورة البانورامية التي تهيمن عليها الأحزاب اليسارية، تحكم ثلاثة بلدان فقط ذات الحجم المتواضع من قبل أحزاب يمينية أو يمين الوسط: الإكوادور، التي ابتليت بتهريب المخدرات والتمرد المتكرر في السجون ، والأوروغواي ، التي يبدو أنها تدير ظهرها لشركائها في الميركوسور (السوق المشتركة الجنوبية) بحثا عن آفاق جديدة وأخيرا الباراغواي التي تنظم انتخابات رئاسية محفوفة بالمخاطر في أبريل المقبل.
وقد أدى هذا الواقع الجديد على الفور إلى إعادة تنشيط المنظمات الإقليمية التي كان يقودها سابق ا منتدى ساو باولو. إن عودة هذه المنظمات إلى الحياة التي ترفع راية الاندماج الإقليمي يتزامن مع خفوت نجم منظمات أخرى التي كانت تدعمها مجموعة ليما، والتي تميل أكثر نحو السياسات الليبرالية والقدرة التنافسية ودور السوق.
ولعل أبرز مثال على هذه العودة القوية للمنظمات الإقليمية التي روج لها منتدى ساو باولو يتمثل في مجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، التي يتولى رئاستها حالي ا رئيس الدولة الأرجنتينية ، ألبرتو فرنانديز.
ومع ذلك ، فإن القادة الجدد من اليسار في أمريكا اللاتينية يبدون أكثر براغماتية من أسلافهم في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.وتختلف خطاباتهم ، حتى لو استمر لسانهم متحدثا عن العدالة الاجتماعية ، وتكافؤ الفرص ، ودور أكبر للدولة ، والحفاظ على البيئة وإعطاء الأولوية لحقوق الشعوب الأصلية.
بيد أنهم يدركون أن العالم قد تغير وكذلك تغير ناخبيهم. لقد سقط جدار برلين منذ فترة طويلة والصين أصبحت أكثر غزوا من أي وقت مضى.
إن إقالة بيدرو كاستييو في البيرو مؤخر ا وسجنه بتهمة “التمرد” و “الانقلاب” الفاشل كانت صدمة لأقرب حلفائه. و دعوتهم المشتركة للإفراج عنه وعودته إلى السلطة ليست سوى حدا أدنى من خدمة الصداقة أكثر من كونها رد فعل صارم ضد الرئيسة الجديدة والكونغرس الذي عزله. لقد ولت الأيام التي اتحدت فيها الأحزاب اليسارية للدفاع عن رفاقها.
في الشيلي، الرئيس الشاب غابرييل بوريتش، على الرغم من إشاراته القوية إلى اليسار، لا يتردد في مخاطبة الأنظمة القائمة في فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا ، موبخا إياهم على قلة اهتمامهم بحقوق الإنسان وأساسيات شعوبهم.
وأخير ا في البرازيل، سيضطر لولا دا سيلفا اعتبارا من فاتح يناير المقبل إلى طلب ود الكونغرس الذي يهيمن عليه “البولسوناريون”، لتشكيل معالم وضع جديد يغير بشكل جذري ميزان القوى في هذا البلد.
في هذه البانوراما المشوشة إلى حد ما، تواجه القارة اللاتينية تحديات جديدة تختلف عن الأسئلة الوجودية التي أثارتها الأحزاب وحركات اليسار في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
وهي تدرك جيد ا أهمية الرفاهية المادية والتنمية المستدامة والحفاظ على البيئة والاحترام الصارم من أجل المسار الديمقراطي.
لا أحد منهم يريد أن يشبه نظام فنزويلا في عهد مادورو أو دانيال أورتيغا في نيكاراغوا، أو حتى كوبا ما بعد كاسترو.