الطائع الحداوي
-1-
احتفل الأنصار في المغرب وفي ربوع العالم، يوم السبت فاتح يونيو 2024، بفوز فريق ريال مدريد بكأس دوري أبطال أوربا في المباراة النهائية التي جمعته بفريق بروسيا دورتموند، بملعب ويمبلي الشهير في العاصمة لندن بإنجلترا. وانتصر الفريق الإسباني على الفريق الألماني، في هذه المباراة، بهدفين لصفر. كان الهدف الأول من توقيع داني كرفاخال بضربة رأسية متقنة وبديعة من زاوية كرة ثابتة نفذها توني كروس. وأضاف فينيسيوس جونيور الهدف الثاني بطريقة إبداعية بعد أن تلقى تمريرة بينية من بيلينغهام. وسجل الهدفان في عشر دقائق، تقريبا، من سبعينيات وثمانينيات الشوط الثاني. وشهدت المنظومة التي استند إليها المدرب كارلو أنشيلوتي عودة الحارس تيبو كورتوا الذي غاب عن سلسلة المباريات السابقة، بفعل ألم الإصابة، ووقع تعويضه بالحارس لينين (ويقال لونين)، الذي قام بكل ما في وسعه لكي يصل ريال مدريد إلى الدور النهائي من عصبة الأبطال، وبصفة خاصة، بعد إزاحة حامل اللقب للدورة السالفة فريق مانشستير سيتي.
-2-
وتزامن إحراز لقب البطولة القارية الخامس عشر، والاستواء، بكل فخامة وأبهة، على عرش كرة القدم الأوربية، مع الهيمنة على سلك البطولة الإسبانية (ليغا) وحيازة اللقب. وهما إشهادان نفيسان يدلان، بالملموس، على عظمة فريق ريال مدريد الكروية وعراقته التاريخية والمسار الاستثنائي لهذا النادي في الحقل الرياضي. وقد جعلت تلك العراقة وهذا الاستثناء من ريال مدريد مرجعا أصيلا في ميدان كرة القدم المعاصرة ومصدرا موثقا للإلهام والاقتداء والمحاكاة والبحث. فكان، بهذا المعنى، شهاد أندية وحمال ألوية.
ومثل أي تاريخ مجيد في الاجتماع البشري، فإن تاريخ النادي الملكي للعاصمة مدريد حافل بالنهايات السعيدة، وموسوم، في بعض محطاته، باللحظات الدرامية. في تماه سردي وتمظهر خطابي يكتنف أي مسرحية أو رواية تحكي علاقة الإنسان بالإنسان وبالعالم. لكن السمة الغالبة في هذا النول التاريخي، هي أنه مهما اختلفت الأجيال المتعاقبة في ريال مدريد منذ التأسيس إلى يوم الناس هذا، وكيفما كانت الأحداث وخطوبها وحجم تأثيرها، فإن الفريق يظل، على مر السنين، محافظا على شخصيته الاعتبارية القارة، وعلى صورة البطل الإشكالي والحقيقي وتصميمه الدائم في الدنو من القيم الأصيلة، وعلى وضعه الريادي في قيادة قاطرة كرة القدم الحديثة، وعلى نصاعة بياض لونه وتجلياته الكاملة من بين الألوان المختلفة والذي تصدح به الحناجر وتتغنى الجماهير في جماع معمور الأرض، وعلى إشاعة المحبة والسلم في أصقاع الكون، وعلى علو كعبه في تقديم عرض كروي كلي متمفصل الجزئيات والنسق، يمكن أن نجمل بعض عناصره في:
– الخطاطة الاستراتيجية العامة المولدة للعمل التاكتيكي
– البعد البراغماتي في معادلات خوارزميات حساب النتائج وقياسها
– المراهنة على الحركة، والاستحواذ، والمنهاج، واستثمار الأحياز
– الجمع بين القواعد الجبرية في القانون والجمالية الفنية في الأسلوب
– التلازم المنطقي والتواصلي بين العقل، والنفس، والبدن
– التدبير المنزلي المحكم في كيفية سريان نواميس المؤسسة
– إقرار المختبر البيداغوجي في صناعة اللاعبين وصقل المواهب وتطوير المهارات وتعزيزها
ولسنا في حاجة إلى القول، إن هذه المكونات تتواشج مع بعضها بعضا وتتعاضد لترسم لنا صورة متناغمة وعلامة لطيفة يتوافق فيها ما هو رياضي (من الرياضيات) وما هو شعري- جمالي في تقاسيم لحن سمفونية خالدة.
-3-
يكاد يرتد ما قلناه باطراد على الفريق المخضرم الحالي الذي يضم فئتين من اللاعبين:
فئة تشتمل على مجموعة من اللاعبين الذين اكتسبوا تجربة ثرية وخبرة حية في المعارك الكروية الحاسمة التي خاضها الفريق محليا، وقاريا، ودوليا، أمثال: كرفاخال، وناتشو، وكروس، ومودريتش، وكورتوا، وفالفيردي، وفاسكيز…
وفئة ثانية تحتوي على لاعبين من طينة: إبراهيم دياز، ورودريغو، وفينيسيوس، وبيلينغهام…وهم حديثو العهد بالفريق.
وقد استطاع المدرب أنشيلوتي، بكفايته الفنية والتقنية العالية، وحكمته السديدة، وعبقريته الفريدة، أن يخلق التجانس الداخلي بين وحدات هاتين المجموعتين، وأن يعمل على أن تنصهر كل فئة في الفئة الأخرى وتفرغ فيها وتدمج دمجا يراعي السلاسة واليسر واللين والتطابق بين النظر والعمل. والقصد من وراء كل ذلك، تحقيق تلاحم الجبر الذاتي المنشود والإعلاء من البناء المعماري للفريق وتحويله إلى كتلة واحدة متراصة اللبنات، وإلى جسم مشترك لتشييد صرح قادر على الحركة، والنمو، والتطور، والفعل، والدينامية الخلاقة.
شكل الفريق بهذه الكيفية، هو الذي يجعله لا يهاب الواقعات الكروية المصيرية، كواقعة ويمبلي الشهيرة التي أضاء فيها سماء لندن الضبابية بنوره الوهاج ونجمه الساطع حيث أضحى في تلك الليلة علما في رأسه نار يحتضن حر الشتاء وبرد الهواء، وبه تأتم الهداة في كل مكان وزمان مثل الجبل الأشم، وأن يكون على استعداد تام ومطلق لمقارعة النزالات في ساحة المعركة، وأن يعد العدة ويأخذ أهبته، في كل لحظة وحين، لاستبدال مبدأ التفاوض بقانون المواجهة الشديدة والمجابهة الحاسمة الذي لا يخرجه من إهابه.
-4-
إن علاقة ريال مدريد بكأس دوري أبطال أوربا، تكاد تشبه، في أحد فصولها، قصة عشق أبدية كتلك التي تسري بين عاشقين طوحت بهما طوائح الزمن في الحب كما يطوح اللاعب الكرة في المرمى على طريقة أهل مجريط في الوجد والهيام.