و.م.ع
أضحى الذكاء الاصطناعي ضرورة لا محيد عنها في مختلف المجالات. فمن الحكامة إلى الفلاحة، ومن التسلح إلى التعليم، مرورا بالترفيه والطب، يتطلب التعامل مع هذه التكنولوجيات الحديثة جهودا دولية مشتركة لضمان استخدامها بحكمة وفعالية، أو على الأقل، لدرء مخاطرها.
فقد بات التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي واقعا يوميا يسائل الأنظمة القائمة والآليات الحالية للحكامة. إذ تثير إمكانية استخدامه لأغراض غير خيرة من طرف أفراد أو جماعات، أو حتى دول، مخاوف تؤرق بال الأكثر تفاؤلا.
دفع التدفق الوفير والمقلق لأدوات هذه التكنولوجيا منظمة الأمم المتحدة إلى دق ناقوس الخطر بشأن العواقب المجهولة للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الآثار غير المتوقعة على الصحة والتعليم والإعلام، أو حتى العلاقات بين الدول.
في مسودة الميثاق الرقمي العالمي، التي ستتم مناقشتها خلال قمة المستقبل، المقرر تنظيمها ابتداء من يوم الأحد في نيويورك، تلفت الأمم المتحدة الانتباه إلى تعاظم الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي، السلبية والإيجابية منها على حد سواء، داعية إلى التصدي للإشكالات المطروحة وإلى التعاون من أجل “تحديد المخاطر وإيجاد السبل الملائمة لدرئها”.
ستتطرق هذه المناقشات إلى المبادئ والأخلاقيات التي يتعين أن يستند عليها تطور واستخدام الذكاء الاصطناعي. إذ قام العديد من الفاعلين ببلورة مجموعة من هذه الضوابط، التي تتراوح بين ضمان موثوقية الذكاء الاصطناعي وشفافيته والاستخدام المسؤول لتطبيقاته، والتي سيكون من الضروري، في نهاية المطاف، أن تخضع للإشراف البشري، مع إمكانية “إيقافها”.
تطمح المنظمة العالمية، كذلك، إلى الاستفادة من هذه التكنولوجيا الجديدة من أجل خدمة الإنسانية، لاسيما إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي لتسريع تحقيق أهداف التنمية المستدامة (2015 – 2030)، في الوقت الذي لاتزال العديد من البلدان متخلفة عن الركب، على بعد ست سنوات فقط من الموعد المحدد لتحقيق هذه الأهداف.
بيد أن هذا الطموح يصطدم بعقبة توفر خدمات الإنترنت والأجهزة الملائمة بغية تحقيق الأهداف المتوخاة. إذ كيف السبيل إلى تطوير التعليم أو الفلاحة، على سبيل المثال، إذا كانت آلاف القرى في أقاصي إفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو آسيا معزولة بشكل كامل عن بقية العالم؟ ومع وجود 2.6 مليار نسمة لا يتوفرون على خدمات الإنترنت، يؤكد الخبراء أولوية التصدي لرأب الهوة الرقمية.
خلال ندوة عقدها مؤخرا مجلس (كارنيغي)، أجمع المتدخلون على الحاجة الماسة إلى سد الفجوة الرقمية حتى يتمكن الجميع من جني ثمار امتيازات الذكاء الاصطناعي، محذرين من أن استمرار الوضع الراهن ينذر بمفاقمة التفاوتات بين الشمال والجنوب، وإضاعة فرصة تعزيز الشمولية والعدالة والإنصاف.
وإدراكا منه لهذه المخاطر، وبغية الاستفادة من الفرص المتاحة، شارك المغرب إلى جانب الولايات المتحدة في رعاية أول قرار للأمم المتحدة بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي من أجل التنمية المستدامة. حظي هذا القرار بتأييد واسع من طرف المجتمع الدولي، إذ حصل على دعم ما لا يقل عن 123 دولة عضوا في الأمم المتحدة.
وردا على سؤال لوكالة المغرب العربي للأنباء خلال مؤتمر صحافي انعقد مؤخرا بواشنطن، أكدت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، أن هذا القرار يهدف إلى “ضمان استخدام الذكاء الاصطناعي بما يخدم مصلحة الجميع، لا سيما ما يتعلق بتسريع وتيرة إنجاز أهداف التنمية المستدامة”، مضيفة أن الذكاء الاصطناعي “قادر على دعم هذه الأهداف”.
وبفضل الدينامية التي رافقت اعتماد هذا القرار الرائد، أطلقت الرباط وواشنطن، في يونيو الماضي بنيويورك، مجموعة الأصدقاء بشأن الذكاء الاصطناعي من أجل التنمية المستدامة.
وفي كلمة بهذه المناسبة، كان السفير الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، أبرز أهمية تثمين الدينامية الإيجابية التي أفرزها هذا القرار من أجل إطلاق منصة تتيح للبلدان تعبئة الجهود في مجال التعاون الرقمي، لا سيما ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي.
وأعرب السفير عن يقينه بأنه “إذا تم استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل فعال وأخلاقي، فإنه يمكن أن يشكل محركا من شأنه أن يساهم في النهوض بالتنمية، بل وأيضا تسريع وتيرة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة”.
وبعد أن أشار هلال إلى أهمية الذكاء الاصطناعي بالنسبة لبلدان الجنوب، وخاصة الإفريقية، لتسريع تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، أكد أن المغرب سيشجع العديد من البلدان النامية على الانخراط الفعال في مجموعة الأصدقاء، بهدف بلورة مقاربة متوازنة لهذه التكنولوجيا الجديدة.
هذه المبادرات، على غرار القرار الذي شارك المغرب في رعايته ومجموعة أصدقاء الذكاء الاصطناعي، تنسجم مع توصيات الهيئة الاستشارية للأمم المتحدة المعنية بالذكاء الاصطناعي، التي أبرزت في تقريرها الأخير أن تطوير هذه التكنولوجيا ونشرها واستخدامها لا يمكن أن يظل تحت رحمة تقلبات الأسواق.
ودعت الهيئة الأممية الحكومات والمنظمات الإقليمية إلى الاضطلاع بـ”دور حاسم” في هذا المجال، مبرزة أن الطابع العابر للحدود للتكنولوجيا وتطبيقاتها “تتطلب مقاربة شاملة”.
من هذا المنطلق، اختارت قمة المستقبل، التي تنعقد بمناسبة المناقشة رفيعة المستوى للأمم المتحدة، الميثاق الرقمي العالمي محورا رئيسيا، حيث سيتركز النقاش حول الذكاء الاصطناعي، لاسيما وأن المخاطر المحدقة به والفرص التي يتيحها ستكون حاسمة، أكثر من أي وقت مضى، في تحديد ملامح مستقبل البشرية.