الفاسي الفهري يستعرض ثلاثة أبعاد للعدالة اللغوية بالعالم العربي

أثار عرض للباحث الأكاديمي المغربي عبد القادر الفاسي الفهري، ألقاه يوم السبت الماضي بالمنامة، بعنوان “لغة (لغات) التعليم – التعلم .. أي اختيار عادل، بأي معايير؟”، اهتماما كبيرا ونقاشا مستفيضا لدى العديد من المتخصصين والمهتمين، الذين شاركوا وواكبوا أعمال مؤتمر “القرائية للجميع”، الذي نظمته (مؤسسة الفكر العربي)، بتعاون مع الجمعية العربية للقراءة (تارا).

وأكد الفاسي الفهري، في مداخلته، أنه من الطبيعي أن تتغيى كل سياسة لغوية التدبير السياسي العادل للألسن المتعايشة فوق التراب الواحد، أو الفضاء المشترك، موضحا أن مفهوم العدالة اللغوية مفهوم حديث العهد جدا في الأدبيات السياسية – اللغوية، ولم يستثمر بعد في الأدبيات اللغوية العربية، وإن كانت هناك أدبيات لا بأس بها عن الحقوق اللغوية ما تزال بحاجة إلى نقد وتقييم.

وتحدث الباحث اللغوي عن ثلاثة أبعاد للعدالة اللغوية يعتبرها أساسية للبت في اختيار لغات التعليم، وتقديم النقاش حول ضبط التعدد والتنوع اللغويين في البلاد العربية، وتتمثل في العدالة اللغوية الترابية أو المحلية التي تخص اللغات التي توجد على تراب واحد أو الجهة الواحدة داخل التراب، والعدالة اللغوية السلالية التي تهم الصيغ التعبيرية أو التنوعات للغة الواحدة، خاصة التنوع المعيار للغة (الفصيحة) والتنوعات غير المعيارية (اللهجات)، والعدالة اللغوية الكونية التي تهتم باستعمال اللغات داخل المجرة الكونية.

وأوضح أن المصالح الأداتية (غير الهوياتية) أصبحت تفرض نفسها قبل المصالح الهوياتية غالبا، خاصة في الدول النامية التي تميل، بمغالاة غير مبررة، إلى تبني أسطورة أن لغة الهوية تعيق التنمية، مما يتوجب عليه اختيار لغة أجنبية من أجل بلوغ الهدف، وهي اللغة “المنقذة” و”الغنيمة”، مبرزا أن مثيل هذا التصور يضعف السياسات اللغوية العربية، وأن كل سياسة لغوية معقولة وعادلة ينبغي أن تجمع باتزان بين الوظائف الهوياتية والوظائف الأداتية للغة (أو اللغات).

واستعرض الباحث معايير اختيار اللغة المعيار في التواصل، والمتمثلة في التواصل، والنجاعة حيث تمكن اللغة المعيار، حين يتم تعميمها بصفة ملائمة، من الحد من الكلفة (التقنية والتعليمية …)، مقارنة مع استعمال لهجات مختلفة لنفس اللغة، ومن توسيع سوق اللغة ورواجها.

وبخصوص معيار الديمقراطية والسياسة، أوضح الباحث المغربي أنه ليس بوسع المواطنين الذين يجهلون اللغة المعيار أن يمارسوا حقوقهم السياسية كاملة، باعتبار أن النصوص الدستورية والقانونية محررة باللغة المعيار، والمداولات السياسية لها معجم سياسي مفرداته معيارية بالأساس، والمؤسسات تستعمل اللغة المعيار في وثائقها، وفي غالبية مداولاتها، مؤكدا أن الدمقرطة اللغوية تقتضي بالتالي أن يتاح للمواطن تعلم اللغة المعيار، وتوسيع استعمالها، كما أنه على المستوى السياسي، تساهم اللغة المعيار في بناء الدولة، وهي تعزز التضامن، والتعايش، والاستقرار السياسي عبر اللغة المشتركة، خاصة حين تكون اللغة ذات طبيعة محلية وكونية، كما هو حال العربية.

وبخصوص معيار تساوي الفرص وتقويتها، شرح الفاسي الفهري أن الامتيازات والفوائد السوسيو-اقتصادية في داخل التراب وخارجه، والشغل، والحركية، وانفتاح الأسواق كلها تكون لفائدة المتكلمين – المستعملين للغات المعيار عموما، في المعاملات الاقتصادية والثقافية وغيرها، المحلية والدولية خلافا لما يحدث مع الجهات، وفرصها أقل.

وفي معرض تطرقه لمحور عدالة إعادة التهيئة الداخلية، والسيناريوهات المطروحة في هذا الشأن، قال إن هناك سيناريو أول “يمكن أن نتصور فيه تهميشا كليا أو إبادة للهجات، لصالح الفصيحة وحدها”، وسيناريو ثان، هو “تهميش تدريجي للفصيحة الحالية (حتى قتلها) لصالح نوع لهجية قطرية، كما يحلم بذلك دعاة التلهيج (…)”، ثم هناك السيناريو الثالث والأخير “الممكن والمعقول”، وهو تهيئة ازدواجية جديدة بغية إحداث تقارب بين الفصيحة والعامية (والعامية والفصيحة).

وتتجه هذه الخطة التهييئية التقاربية، يوضح الأكاديمي المغربي، إلى جوانب متعددة، منها إدماج نواة الثروة المفرداتية اللهجية (المغربية أو غيرها) في الرصيد المفرداتي الفصيح، وتيسير نظام القواعد (في المراحل الأولى من التعليم على الخصوص).

ففي هذا التصور تقوم الدولة بخلق دينامية تحول ازدواجي داخلي، يقوي حيوية الفصيحة بالروافد اللهجية اليومية، التي تعبر عن مختلف مناحي الحياة العملية على الخصوص، وفي نفس الوقت تجعل العامية تقترب تدريجيا من الفصيحة، بفضل الاتصال اليومي مع عربية ميسرة وحيوية، بحيث تصبح “عامية مثقفة”، بالاستعانة بالقنوات الإعلامية والفضائيات.

وخلص الفاسي الفهري إلى أن حاجات تعلم المواطن من اللغات تكمن، أساسا، في لغة معيارية وطنية هي أساس التواصل الفعال في مختلف مناحي المعرفة والتقانة والحياة، لها الامتياز السيادي على التراب، ولغة كونية تحدد بحسب الفوائد الأداتية لها، ولهجات تنوعية تتكفل بالوظائف غير الرسمية، وليست محكومة بالمعيارية، مشددا على أن العدالة اللغوية بأنواعها تتطلب انتقاء هذه اللغات حسب معايير للرسمية وللكونية، وما غير هذا ممكن، ولكنه ليس معياريا، ولا تتكفل بضبطه العدالة المعيارية.

وبحث متخصصون وخبراء عرب، من بينهم مغاربة، خلال مؤتمر (القرائية للجميع) المنظم على مدى يومين، تطوير معايير لغة الضاد وأساليب تعليمها وتعلمها، حيث أقيمت حلقات نقاش حول مواضيع “تعلم اللغة العربية المبني على المعايير”، و”القرائية للجميع”، و”أدب الأطفال مفتاح القرائية”.

وموازاة مع ذلك، نظمت أوراش عمل للمتخصصين، تناولت العديد من المواضيع منها “النص المعلوماتي في التعليم الابتدائي”، و”استراتيجيات تدريس القراءة”، و”استخدام المعايير في الجيل المطور من مناهج اللغة العربية”، و”دور التكنولوجيا في صف اللغة العربية”، و”دور البصريات في تعلم العربية”، و”اعتماد نظام المعايير في تطوير دور الحضانة للأطفال”، كما تم بالمناسبة، تكريم الفائزين بـ”جائزة كتابي 2015” لأدب الطفل العربي في دورتها الثالثة.

ويندرج تنظيم هذا المؤتمر في إطار مشروع “الإسهام في تطوير تعلم اللغة العربية وتعليمها – عربي 21″، وهو أحد مشروعات (مؤسسة الفكر العربي) لدعم تعلم اللغة العربية وتعليمها، وتشخيص واقع تعلم هذه اللغة، وتحديث طرق تدريسها في الوطن العربي، ونشر المعرفة حول أهمية القراءة باللغة الأم.

وتعد (مؤسسة الفكر العربي)، التي يوجد مقرها الرئيسي ببيروت، مؤسسة دولية مستقلة غير ربحية، وهي مبادرة تضامنية بين الفكر والمال، تعنى بمختلف مجالات المعرفة، وتسعى إلى “توحيد الجهود الفكرية والثقافية وتضامن الأمة والنهوض بها والحفاظ على هويتها”.

Total
0
Shares
المنشورات ذات الصلة