قرأت هذه الأيام أنه في بلدي المغرب اجتمع أعضاء هيئة تسمى بـ”المجلس الأعلى للتربية والتكوين”، بمناسبة انعقاد الدورة العاشرة للمجلس، واتفقوا على أن يقدموا توصيات لما وصف بـ”إصلاح” منظومة التعليم، وأن أهم هذه التوصيات كانت إلغاء مجانية التعليم.
لن أخوض فيما خاض فيه الكثيرون، وهو النقاش حول ما سُمي بمحاولة الدولة بيع خدمة التعليم للقطاع الخاص، وما وصف بضرورة إنقاذ آخر أنفاس قطاع يحتضر منذ زمن، وأفضل عليه أن اطرح تساؤلاً وحيداً: هل مجانية التعليم هو النقاش الذي يجب علينا أن نناقشه فعلاً؟
درست منذ الابتدائية إلى الجامعة في قطاع التعليم الحكومي، وأذكر جيداً كيف أن والدي رحمه الله ووالدتي كانا يقاتلان الزمن من أجل توفير مصاريف الدراسة، مبلغ مالي قد يبدو اليوم زهيداً، لكن وقتها كان مبلغاً على الأهل أن يحسبوا حسابه.
كان والدي محظوظين، فعلى خلاف كل العائلات في ذاك الزمن أنجبا طفلين فقط، فكانت مصاريفنا ليست ثقيلة كما هي مصاريف من له أكثر من طفلين. ومع ذلك، أذكر جيداً كيف أن بداية السنة الدراسية كانت بمثابة الكابوس لوالدي، يبدأ بذاك المبلغ الزهيد للتسجيل في المدرسة، ولا ينتهي بلائحة الأدوات المدرسية الطويلة. لم يكن تعليمنا مجانياً، ولم نكن عائلة فقيرة حتى ترفع عنا أعباء المدرسة، ولم نكن عائلة غنية حتى ندفع مصاريف أكبر حسب ما تنص عليه القوانين، ومع ذلك كانت مصاريف المدرسة مكلفة، وكانت جودة التعليم جيدة مقارنة بواقعه اليوم.
وفوق هذا وذاك، كنا في فصل واحد نمثل كل شرائح المجتمع المغربي، أبناء منازل الصفيح، أبناء الفيلات الفاخرة، أبناء الاقامات السكنية المتوسطة، وأبناء المنازل في الأحياء الشعبية، كلنا كنا في فصل واحد نتلقى نفس التعليم.
أتذكر هذا وأنا أتابع النقاش حول توصيات إلغاء مجانية التعليم، واتساءل: “هل هذا هو النقاش الصائب الذي يجب أن نتحدث عنه حتى ننقذ التعليم وهو في أنفاسه الأخيرة؟”.
تخرجت من الجامعة بدبلوم الدراسات العليا المعمقة، وهو ما يفوق دبلوم الماستر اليوم، وشاءت الأقدار أن تكون أول مهنة أمارسها هي التعليم في مدرسة خاصة، يرتادها أبناء كبار صناع القرار في المغرب. أمضيت ثلاث سنوات أعلم تلامذة الثانوي التاريخ والجغرافيا، أغلب التلامذة المجتهدين والمجدين كان آباؤهم أساتذة، كان التلامذة يعرفون أن آباءهم استثمروا كل راتبهم فيهم، وأن عليهم أن يكونوا شاكرين لهذه التضحية، فيما كان جزء كبير من التلاميذ المنحدرين من طبقة ثرية أكثر ميولاً للاستهتار، ولبذل مجهود أقل في الدراسة، فلا شيء كان يحفزهم على أن يوجعوا رؤوسهم بمعارف لن تفيدهم كثيراً في رأيهم. لذلك أتساءل هل النقاش حول مجانية التعليم هو النقاش الصحيح لإنقاذ ما تبقى من رمق؟
ألتقي في المقهى بأحد أصدقائي، وقد عاش كثيراً متجولاً بين عدة دول، وعاد إلى المغرب بطفلتين من زوجة أجنبية، قرر الاستقرار هنا، سجل ابنتيه اللتين لا تتحدثا إلا الإنجليزية بواحدة من أغلى المدارس ليس في المغرب فقط، بل في العالم. ومع ذلك تخبره إحداهما وهي في ربيعها الـ14 أنها لا تريد الذهاب إلى المدرسة، وأنها ترفض إكمال تعليمها، وأنها تشعر بأن ما تتلقاه هناك لن يفيدها في شيء، وأنها تريد أن تبدأ من الآن مشوارها في احتراف مهنة عرض الأزياء لصالح مجلات عالمية، يحكي لي الأب مصدوماً، ويقول لي: “أنا أدفع 14 ألف دولار سنوياً من أجل تعليمهما فقط دون احتساب باقي المصاريف”، يقول لي الأب، وأتساءل أنا: “هل النقاش حول مجانية التعليم في المغرب هو النقاش الصحيح؟”.
تطرق “ليليا” باب غرفتي، افتحه، تتقدم نحوي، تعانقني، وتقول لي بفرنسية أنيقة: “عميتو، أريد أنا شاهد رسومي المتحركة المفضلة”، افتح حاسوبي، وابحث عما تطلبه، اخبرها أن كل ما وجدته هو بالإنجليزية، تقول لي بالفرنسية “عميتو أنا لا افهم الإنجليزية، أريد مشاهدته بالفرنسية”، أسالها في محاولة لإغاظتها إن كانت تريد مشاهدته بالعربية، تنظر إلي وتقول: “لكني لا أفهم العربية، أنا فرنسية، لأني أحكي الفرنسية”، أشعر أني سأصاب بانهيار عصبي، كيف تقول إنها فرنسية لأنها تنطق بالفرنسية، لماذا لا تتلقى دروساً حول الهوية الثقافية، أتذكر أنها لا تزال في سنها الخامسة، ومع ذلك احتج وأقول لها: “يجب أن تتعلمي الإنجليزية”، تجيبني: “اريد عميتو لكني لا أفهمها”، أتأملها كثيراً، وأبحر في عينيها الجميلتين بين شطان المستقبل، أرى بأم عيني اللغة الصينية هي لغة العالم القادم، أرى بأم عيني الإسبانية هي لغة العالم الجديد، أرى الفرنسية تتقلص، الإنجليزية لا تزال ثابتة لكنها لم تعد تتبوأ نفس الصدارة، ترمش ليليا بعينيها، فاستيقظ من تأملي، واتساءل: “هل النقاش حول مجانية التعليم هو النقاش الصائب؟”.
على موقع تيديكس، ابحث عن محاضرات حول التعليم، أجد ذاك السيد البريطاني وهو يتحدث عن ضرورة إحداث انقلاب في التعليم، ويوصي بضرورة اعتماد التعليم الابتدائي على الفنون، والرقص، وليس على الرياضيات واللغات كما هو حال أغلب الأنظمة التعليمية اليوم، يكمل الرجل ويقول: “في المدرسة، طلبت المعلمة من التلاميذ أن يرسموا شيئاً، توجهت ابنتي ذات الخمس سنوات إلى المرسم، وبدأت تخط بريشة الألوان شيئاً، سألتها المعلمة ماذا ترسمين، اجابتها “الله”، فقالت المعلمة مندهشة: “لكن لا أحد يعرف كيف هو الله”، اجبتها طفلتي بكل ثقة: “بعد أن أنهي رسمي سيكونون قد عرفوا”.
أستمع لمحاضرة سيد التعليم في بريطانيا، واتذكر اليوم الذي طرحت فيه على استاذتي سؤال: “من يكون الله؟”، فكان الجواب طردي من الفصل، تمر السنوات واصير أستاذة، وتقاطعني تلميذة يلمع الذكاء في عينيها، وتقول لي: “أستاذة، في حصة التربية الإسلامية لا يمكن أن أطرح هذا السؤال لذلك أسالك:” من يكون الله؟”، أتوقف عن القاء درس التاريخ، أضع الطبشورة فوق المكتب، وافتح باباً للنقاش حول من يكون الله، لا أريد أن يتعرض تلامذتي للقمع، كما تعرضت له، ومع ذلك لا زلت أتساءل: “عن أي مجانية تعليم تتحدثون؟”.
الحديث عن مجانية التعليم في المغرب، هو كالحديث عن رجل عاث في الأرض فساداً، وحين اقترب رحيله، يحاول أهله ذكره بخير، فلم يجدوا غير أن يقولوا فيه إنه كان يغسل وجهه صباحاً. هذا هو ما يحدث اليوم في هذا النقاش حول توصية مجانية التعليم في المغرب.
النقاش الذي يجب أن يبدأ بضرورة اللحاق بالدول التي تلقن الدرس خارج فصول الدرس، ولا ينتهي بالتساؤل عن “من يكون الله؟”، غير ذلك فهو نقاش المريض الذي فتك السرطان بجسده، ولا زال مقتنعاً بأن تخلصه من كاس الشاي بالسكر في الصباح يمكن أن يعجل بشفائه من كل داء.