النموذج السياسي المغربي وسؤال الاستمرارية/ القطيعة؟
السبت 12 أغسطس, 2017 12:40 الحسين بوخرطةلقد مر النموذج السياسي المغربي من عدة مراحل، وتجاوز بحكمة وتبصر عدة منعرجات كلها كانت صعبة نسبيا. لقد تمكنت الدولة، من خلال عمليات تكيفها مع تطورات نضج الحركات الاجتماعية، من تحقيق عدة نجاحات في مبادراتها وأفعالها وتفاعلاتها مع الأحداث المختلفة الوطنية وارتباطاتها الإقليمية والدولية. لقد توج هذا المسار بتوسيع اختصاصات الحكومة، وتوفير الآليات القانونية والدستورية لضمان نجاعة فعلها (قانون التعيين في مناصب المسؤولية كنموذج)، وتقوية اللامركزية بأصنافها المحلية والإقليمية والجهوية (مع الإشارة إلى تأخر إصدار القانون التنظيمي المتعلق باللاتركيز الإداري). أما ما يتعلق بمسؤولية احترام مواعيد إصدار القوانين التنظيمية ومنطق تنفيذها، فتتحملها الحكومة السابقة.
فعلا، بعد مسار سياسي طويل الأمد، عاشت البلاد بمعسكرين تميزت علاقتهما بتفاعل تصارعي، تقابل فيه معسكر الدولة في جهة، ومعسكر الحركات الاجتماعية وأحزاب المعارضة في جهة أخرى. ومع مرور الوقت، تحول الصراع، الذي كان سلميا في أغلب أحداثه، وعنيفا في مراحل عصيبة تم نعتها بسنوات الجمر والرصاص، إلى تدافع مسترسل في الزمان والمكان من داخل المؤسسات. لكن هذه المرة لم يكن مجاله يقتصر فقط على المؤسسات اللامركزية (الانتخابات الجماعية والبرلمانية)، بل امتد ليشمل كذلك المؤسسات المركزية (الحكومة ابتداء من 1998) ومؤسسات اللاتمركز الإداري (وهنا لا أجد أي حرج في إثارة كلمة “تدافع” بالرغم ما يشاع هنا وهناك في شأن الجهات التي تحتكر استعمالها).
لقد ابتكر المقاوم عبد الرحمان اليوسفي مصطلح “التوافق”، وعنون مرحلة قيادته لأول حكومة دشنت مسار الانفتاح السياسي والاقتصادي، بشعار “الانتقال الديمقراطي التوافقي”…. ووصلنا، بعد تجاوز الفترة السياسية الحرجة نسبيا 2009-2011، إلى مرحلة حساسة (الربع الأخير من العشرية الثانية من العهد الجديد)، إلى تدخل ملكي دستوري بارز (خطاب العرش 2017)، تدخل صريح ورافض للجوانب السلبية من التراكمات السياسية التي أعطت الانطباع على مستوى الرأي العام وكأن التوافق أصبح مرادفا للتواطؤ. لقد ندد عاهل البلاد بالفساد، وبالقصور الذي ميز ويميز الفعل المؤسساتي العمومي، والكساد والتراجع الذي أصاب البنيات الحزبية التقليدية على المستويين الداخلي والخارجي، والوقوف بالدليل والحجة على ضعف قدرتها على تأطير القاعدة الواسعة من الشباب وإدماجهم في الحياة السياسية وفي الدورات الاقتصادية للبلاد.
بالفعل، لقد تدخل جلالة الملك بجرأة، وفي زمن سياسي تعرف فيها البلاد انتقالا ديموغرافيا يستوجب تدخل الدولة للحيلولة دون الدخول في بداية مرحلة شيخوخة البنية الديموغرافية للمجتمع وتحمل تكاليفها الباهضة. وموازاة مع هذا التدخل، طفا على السطح، على مستوى المجتمع والدولة على السواء، رزمة من المطالب السياسية بقاسم مشترك يتجلى في كونها تثير الحاجة إلى خلق تحول واضح ومملوس في منطق قيادة التغيير، منطق تعاقدي وتوافقي جديد لا يجب أن يترك أي مجال لأي تلميح أو إشارة أو رسالة يكمن استغلالها أو الركوب عليها لتكريس الغموض والمغالطات في شأن عزم الدولة لتجاوز مرحلة، والدخول في مرحلة جديدة أكثر تقدما من سابقتها. إنها المرحلة التي ستوفر شروط ضمان إعطاء الانطلاقة لمسلسل جديد لإنتاج النخب على أساس ربط الكفاءة والمهنية والخبرة والمسؤولية الوطنية بتقوية فعل الدولة في كل المجالات. في اعتقادي، حاجة الدولة إلى تحقيق هذا الرهان تمليه كون الوقت قد حان لتفنيد الانطباعات والادعاءات التي يطمح روادها إلى خلط الأوراق السياسية وبعثرتها من خلال ترويج مغالطة تشبيه التوافق (مصطلح سياسي أخرجه إلى الوجود اليوسفي) بالتواطؤ. من المؤكد أن تطورات ما بعد خطاب العرش ستكون لا محالة قوية بطبيعتها إلى درجة قد تفضي إلى تسريع وثيرة الفعل العمومي بالشكل الذي يضمن ترسيخ الاقتناع عند الجمهور المغربي كون ما شاع في شأن هذا الموضوع (موضوع الغموض والمغالطات) هو في حقيقة الأمر مجرد تداعيات جانبية لتدبير الصراع السياسي في بلادنا، تدبير جوهره يعبر في العمق عن إرادة سياسية ملكية قارة للتقدم، بالجرعات المطلوبة، في بناء دولة المؤسسات، دولة الحق والقانون، على أساس تعميم الفوائد المادية والمعنوية على المغاربة أفرادا وجماعات (التقدم في تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال تفعيل مبدأ تساوي الفرص المناهض الطبيعي للابتزاز والريع السياسيين).
في هذا السياق، فالحديث عن مآل تطور النظام السياسي المغربي ما بعد هذا الخطاب الملكي التاريخي، دفعني إلى استحضار نموذجين سياسيين ناجحين عالميا في رأي المتتبعين. النموذج الأول هو الدولة الصينية. إنه نموذج نظام سياسي مختلف عن تجربة الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي، نظام يلوح اليوم، بعدما أحرز انتصارا اقتصاديا وتكنولوجيا على المستوى الكوني، انه أصبح قوة عسكرية عالمية. انه نموذج دولة الحزب الواحد (الحزب الشيوعي)، المنخرط بقوة في التحولات الدولية وعلى رأسها اقتصاد السوق. والنموذج الثاني، هو نموذج الدولة في الغرب. إن هذا الأخير، المتشابه من دول لأخرى في هذا القطر الرائد كونيا من حيث الحرص على تفعيل وترسيخ المبادئ الديمقراطية وقيمها في منطق ممارسة السلطة وجعلها القيمة الأساسية لتأطير الفعل السياسي، قد نجح بدوره في تقوية الانتماء الوطني على مستوى البلد الواحد، والانتماء الإقليمي والجهوي على السواء. كما تم تسجيل تجاوزه الواضح للعتبة المطلوبة لترسيخ الحداثة، وبالتالي تمكن من النجاح بجدارة واستحقاق في تكوين عقل جماعي مناهض للإشاعات، والاعتبارات الواهية، والادعاءات المصطنعة، والتقاليد البالية المكبلة لحرية الإبداع والتفكير.
في كلتا الحالتين، أي في إطار النموذجين السالفي الذكر، لا أحد يمكن له أن يشكك في كونهما يقتسما قيمة سياسية أساسية: لقد ارتقى دور الدولة فيهما إلى درجة أصبحت من خلاله حامية للقانون والمؤسسات وراعية للسياسات التنموية في إطار البحث المستمر عن التفوق في سياق اقتصاد عالمي منفتح. المحاسبة، كأساس وقاعدة لضمان نجاعة فعل الدولة وديمومته، تتم على أساس القانون، والحرص على ضمان انعكاس الإرادة الشعبية في العمل السياسي والمؤسساتي. إنها قيم نموذجية مشتركة يحتدى بها في مجال تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتحصين فكرة كون هذه الأخيرة، أي المحاسبة، لا يمكن تعطيلها أو عرقلتها أو رهنها بابتزاز هذا الحزب أو ذاك، أو خضوعها لضغوطات اللوبيات وعراقيل جيوب المقاومة، …. انه تعبير جلي وملموس، واقعي وميداني، عن الوعي المجتمعي العميق في هذه البلدان بقيمة المكتسبات والتراكمات وبالفائدة من التشبث بالحرص واليقظة اللازمتين للوقاية من الانزلاقات، وضمان تقوية التوافق الوطني باستمرار في شأن المتطلبات المستقبلية…
وعليه، فبالنسبة لوضعنا الاستثنائي، كبلد نامي يطمح إلى التخلص من الفقر والأمية ويرفع من مستوى تنميته البشرية، اعتقد أن السلطة التقديرية المؤسساتية لبلادنا قد قررت إعلان موعد جديد في اللحظة المواتية لتحقيق تحول جديد. فعلا، لقد وصل المغرب السياسي إلى نقطة محورية في تاريخه (مفترق الطرق)، نقطة تتطلب تكثيف الجهود لتحقيق التفعيل المنشود للآليات الدستورية والقانونية للحد من خطابات الابتزاز السياسي، وتقديم الدلائل والحجج عبر الممارسة لتفنيد الادعاء كون المغاربة يعيشون في دولة في قلب دولة. فلا يستساغ السماح مستقبلا بترديد مثل هذا الكلام موازاة مع إصدار الاعترافات الصريحة والواقعية من كل الجهات تؤكد باستمرار كون المؤسسة الملكية، التي يجسدها شخص جلالة الملك، ملك جميع المغاربة وجميع الأحزاب، هي الضامنة للتحولات الإيجابية، والمؤهلة، بحكم الدستور والقانون والتاريخ، على تفنيد كل المغالطات والادعاءات من خلال مسار سياسي بمراحل واضحة المعالم.
إن المغاربة اليوم ليسوا في حاجة إلى من يربك معتقداتهم، وإقرار كون الدولة المغربية واحدة وموحدة، ترابيا ومؤسساتيا، هو بمثابة زاد لتقوية الوطنية من جهة والثقة في العمل السياسي من جهة أخرى. ففي هذه النقطة بالذات، لقد تابعت عن كتب، من خلال كل المنابر الإعلامية تقريبا، كل ما أثير من اعترافات وتأكيدات متتالية في الزمن والمكان في شأن حقيقة وأحقية الخصوصية الإقليمية لبلادنا. إنها الخصوصية التي أتاحت باستمرار تراكم الإمكانيات المادية والمعنوية المجددة لقوة مقومات ثورة الملك والشعب. إنها الخصوصية الزاخرة بالفرص المشجعة على تحقيق التقدم في العمل السياسي خطابا وممارسة وحصيلة. وفعلا، فالدخول إلى مرحلة جديدة تكون فيها سياسات الدولة في رمتها وجوهرها وتفاصيلها الدقيقة في خدمة الشعب المغربي أصبح اليوم أمرا محتوما، وهو في نفس الوقت تعبير واضح على تقدمية المسار السياسي للبلاد. إنه تعبير كذلك عن صفة الحزم واليقظة والقدرة على التكيف التي يتمتع بها النظام السياسي المغربي بشكل دائم، والذي توج بدعوة ملكية صريحة لخلق القطيعة مع عدد من الممارسات غير المبررة في الإدارة والسياسة. فتدشين المشاريع من طرف أعلى سلطة في البلاد، من المفروض أن تكون ترجمة للبرامج المدروسة بدقة وذات آجال التنفيذ المضبوطة…. فلا يمكن مثلا استساغة تكرار تسخير ميزانية وزارة معينة لتنفيذ برامج تنموية على تراب انتماء الوزير لترسيخ مشروعيته السياسية أو مشروعية حزبه بمال الشعب المغربي….. ولا يمكن عرقلة مشاريع رسمية من طرف حزب حاكم تحت ذريعة كونها ستقوي شرعية حزب منافس …..
في اعتقادي، المطلوب اليوم من كل الفاعلين هو بذل الجهد ومضاعفته باستمرار لتعويد المغاربة على الاعتراف بالأفكار، وتقييم البرامج وتنفيذها، والحكم على النتائج بالموضوعية الكفيلة بتقوية الثقة في العمل السياسي،… ففي هذا الشأن، الحكومة مطالبة باعتماد التخطيط والبرمجة وتعميق الدراسات من أجل بلورة مخططات وطنية متتالية ومتكاملة للمشاريع المهيكلة للتراب والقابلة للتنفيذ، وتعمل على إنجازها في آجال معروفة …. كما أن خلق القطيعة مع المنطق القديم في هذا المجال لا يمكن اعتباره إلا مرادفا لعبارة “كفى من التكرار والتجزيء والعراقيل والابتزاز السياسي” …. جلالة الملك، هو ملك كل المغاربة بدون استثناء، ورئيس الحكومة ووزرائها ورؤساء الغرفتين هم كلهم نظريا، وفي حكم القانون والدستور، فاعلون في خدمة كل المغاربة بدون تمييز، ويجب أن يعبروا في برامجهم وخطاباتهم وممارساتهم أن الدولة واحدة موحدة.
وفي الختام أقول أن المشكل في بلادنا ليس هو قلة الدراسات والتشخيصات…. البلاد تتوفر على المخطط الوطني لإعداد التراب، وتتوفر على خريطة للفقر يتم تحيينها كلما تطلب الأمر ذلك، وتتوفر على مستويات الأمية ترابيا … والحالة هاته، ما على الحكومة، في إطار المخططات الجهوية لإعداد التراب، إلا أن تجند كل طاقاتها لإعداد مخطط للمشاريع التنموية، المستجيبة للآفاق الإستراتيجية للدولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وتبرمج تنفيذها خلال فترة انتدابها، لتخلفها حكومة أخرى في إطار التناوب السياسي لتحقيق التراكم وليس التكرار …..