الإدمان

الخميس 28 مايو, 2015 11:09 أحمد الدافري
إحاطة -

دخلت أسرة تتكون من أب وأم وابن وثلاث بنات إلى مقهى فسيح خاص بالعائلات، وجلس أفرادها بهدوء وانضباط في الفضاء الخاص بالزبائن غير المدخنين، وأخرجوا هواتفهم ولوحاتهم الإلكترونية. بعد برهة قصيرة، أتى النادل ناحيتهم لكي يعرف ما يريدون تناوله، فكان الرقم السري للويفي الخاص بالمقهى أحد العناصر الأساسية ضمن قائمة الطلبات التي تقدموا بها له. وما أن كشف لهم النادل عن الرقم، حتى قطعوا كل خيوط التواصل الممكنة بينهم، وانغمروا في عالم الإنترنت، وكأنهم لم يخرجوا من البيت، ويلتئموا كلهم داخل فضاء المقهى، إلا لهذا الغرض.

هذا المشهد ليس نصا مُتخيلا يشكل جزءً من فيلم أو مسلسل، بل هو واقع من صُلب الحياة، نُصادفه يوميا، ليس فقط عندما يحتاج المرء للترويح عن نفسه في المقهى، أو عندما يريد أن يخفف من الملل في قاعات الانتظار، أو في المحطات الطرقية، أو في مقصورات القطار، بل حتى عندما يكون من الفروض أن يُركز انتباهه على أمور أساسية، في قاعات الدرس، أوفي اجتماعات العمل، أو أثناء السياقة، أو داخل قبة البرلمان، وهنا تكمن الخطورة.

عندما دخل الإنترنت إلى المغرب في بداية النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، كان يحتاج المرء إلى الذهاب إلى فضاء السيبر (Cyberespace)، لكي يستفيد من خدماته، بثمن لم يكن في متناول الجميع. حينها، كان الذين يترددون على فضاء السيبر أقلية، وكان دافعهم الأكبر من التردد على هذا الفضاء هو التواصل عن طريق الدردشة.

لم يكونوا مهتمين حتى بمعرفة معنى كلمة “سيبر” Cyber، ولا فهم أصلها الذي يعود إلى الكلمة اليونانية “كوبيرنيتيكي”، والتي تعني “ممارسة الحُكم”. فهذه الكلمة أصبحت تُستعمل بشكل تصاعدي سريع منذ النصف الثاني من القرن العشرين، مع التطور الكبير الذي كانت علوم الإعلاميات والروبوتيك تشهده، والتي سبقت ظهور الثورة الرقمية، التي غزت العالم، انطلاقا من النتائج التي حققها “السيبرنيتيك”، وهو العلم الذي طوره عالم الرياضيات الأمريكي نوربر وينر منذ سنة 1947، واعتبره “نظرية كاملة في مجال التحكم في الآلات والحيوانات والتواصل معها”.

الإنترنت هو إذن ثمرة أبحاث علمية دقيقة، تداخلت فيها مجالات علمية أخرى، من بينها الإلكترونيك، وعلوم الإعلاميات. بل الأكثر من ذلك، أن عالم الرياضيات نوربر وينر، طور علوم السيبرنيتيك التي أفرزت الإنترنت فيما بعد، داخل مجموعة بحث كانت تشتغل دوريا في نيويورك في الفترة ما بين 1942 و1953، تتكون من علماء متنوعي التخصصات،

كان همهم هو الوصول إلى علم يعرف بالضبط كيفية اشتغال العقل، وصناعة جهاز شبيه به، قادر على أن يحل محل الإنسان، من أجل اتخاذ القرارات وتنفيذها، وهنا يكمن النبوغ. وبما أن هذا العلم قد بدأ يتطور لدى الغرب في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان مُحاطا بالسرية، فلنا أن نتخيل إلى ماذا يمكن أن يكون قد وصل إليه الآن هذا الغرب المحيط نفسه بالأسرار، الذي لم يشرع في بيع تكنولوجيته لنا سوى بعد نصف قرن. وبالحالة التي وصلنا إليها اليوم، مع الغزو الذي نتعرض له من قبل الحواسيب واللوحات الإلكترونية والهواتف الذكية الغربية، فلا حول لنا ولا قوة سوى الإدمان.