الرغبة في التعلُّم وبناء معناه

الأثنين 18 فبراير, 2019 11:07 محمد بوبكري
إحاطة -

تعلن مدرستنا رسميا رفضها تلقين المعرفة للتلاميذ ونقلها إليهم. لكن، هل استطاعت، لحد الآن، توفير الشروط الديداكتيكية الكفيلة بجعلهم يبنون معارفهم عبر انخراطهم في البحث…؟ الجواب هو أنها لم تتخلص بعد من داء النقل الذي لا يكرس في نفوس التلاميذ سوى الوثوقية والانغلاق والجمود…
يسود تاريخنا التربوي، إن جاز القول، طغيان”الفكر السحري”، إذ يعتقد المسؤولون عن التعليم أن تغيير الكلمات أو إطلاق الشعارات يؤدي إلى تغيير الحياة المدرسية وإصلاحها، حيث يطلعون علينا من حين لآخر ب “تصور” أو “توجه” معين هم عاجزون عن تعليله وتوضيح أسسه ومناهج تطويره وكيفية إنجازه، كما أنهم عاجزون عن الدفاع عما يسمونه بـ “مشاريع إصلاحية”، مما يجعل تلك الطموحات مجرد كلمات بدون دلالة ولا جدوى، وبذلك يسقط هؤلاء المسؤولونفي تبني لغة التعليمات والأوامر، عوض اعتماد لغة العقل والتفكير والخيال والحوار والتفاعل التي تنسجم مع طبيعة المعرفة والتعليم والتعلُّم.
تبعا لذلك، صار المدرسون والمؤطرون التربويون ملزمين بالاشتغال بما لا يدركون أسسه، وكيفية تطويره، وطبيعته والاشتغال به، ودلالاته، والفائدة منه، وحدوده،وآثاره، مما يحول دون استيعابهم له أو إنجازه أو تقويمه، أو تحسينه، أو تجاوزه. وهذا ما جعل مجتمعنا ينطلق من الصفر في كل مرة يتم فيها الحديث عن إصلاح التعليم، من دون أن يستطيع، لحد الآن، اعتماد منهجية عقلانية أسلوبا في تطوير مشاريع تربوية وديداكتيكية، وهو ما حال دون إنجاز ذلك. ويؤكد ما يُسَمَّى بـ “البرنامج الاستعجالي” صحة ما نقول، حيث لا يتضمن إصلاحا بيداغوجيا فعليا رغم أن هذا الإصلاح يشكل أساس جودة التعليم، ولا يكلف أموالا باهظة… أضف إلى ذلك أنه لا قيمة للتجهيزات والبنايات المدرسية بدون تحول نوعي في العملية التعليمية-التعلمية…
بناء على ذلك، لا يمكننا القول اليوم إننا نشتغل على أسس متينة وصلبة، في حين إن وضعيتنا هشة… لكن الأسوأ هو أن المسؤولين لا يعترفون بالواقع، ويتصرفون وكأنهم يعرفون بالضبط كيف يمكن تكوين الفكر البشري وبناء ملكاته وكفاياته الأساسية…. إننا نعاني من فقر في النقاش التربوي والديداكتيكي، مع أنه من المفروض أن ينقلنا الحديث عن إصلاح المدرسة إلى طرح أسئلة نظرية عميقة حول طبيعة الإنسان وقدرته على التطور عبر وضعيات تدريسية غير مسبوقة، ومنحها معنى، والتصرف بشكل مثمر… وهذا ما سيساهم في تعدد التصورات والسيرورات التعلُّمية واختلافها وازدهار البحث، مما ستنجم عنه جودة التدريس والتعلُّم…، إذ إن اعتماد البحث التربوي سيجعل رؤيتنا التربوية واضحة نسبيا، مما يمكننا من خلق تراكم معرفي حول مدرستنا يساعد على تحسين ممارستنا التربوية…
لا تثير مدرستنا لدى التلاميذ حب الاستطلاع الذي هو جزء من طبيعة البشر، بل إنها تخمد روحه فيهم، ولا تمكنهم من الاكتساب المستمر للمعارف عبر الانخراط في بنائها. وتبعا لذلك، لا يمكن لأي مدرس أن يلزم التلميذ بالتعلُّم، لأنه لا يستطيع التأثير إلا في المضامين التي يدرسها، أو في ظروف التدريس وسيرورته ونتائجه… لكن لا أحد يمكنه أن يفرض التعلُّم على البشر، لأن فعل التعلم منوط بالذات المتعلمة.
إذا كان من غير الممكن معالجة فقدان شهية الأكل بالتخمة، فلا يجوز إشباع التلميذ إلى حد التخمة بمعارف لا يبنيها بذاته، ولا يفهمها،ويعجز عن توظيفها لبناء معارف جديدة حول ظواهر أخرى، ما يجعله لا يرغب فيها. كما ينبغي الوعي بأن ظاهرة فقدان الشهية المدرسية موجودة، بل إنها تزداد استفحالا إلى حد أنها تكاد تفقأ الأعين. لكن، هل يمكن معالجة هذه الظاهرة؟ وهل يمكن فعلا منح معنى للتعلُّم؟
يعتبر أغلب الناس أن الدرس التلقيني مُوَجِّه، لكن يلاحظ “فليب ميريو” Ph. Meirieu أنه، على عكس ذلك، قد يكون غير مُوَجِّه، حيث يمكن أن يكون التلميذ حرا في عدم الإنصات إليه إذا كان راغبا عنه. كما أن المشكلة، أو المسألة، لا تكمن في معرفة الدور التوجيهي لهذا النوع من الدروس من عدمه، بل تكمن أساسا في القدرة على اختيار الوقت المناسب للجوء إليه وضمان فعاليته عند الحاجة إليه. لا يمكن التخلي عنه كلية، لأن الدرس التوجيهي قد يأتي أحيانا ببعض المواد المفيدة للتلاميذ للتقدم في بحثهم وبنائهم للمعرفة، أو في الجواب على الأسئلة التي يطرحونها على ذواتهم… لكن يجب أن ننتبه إلى أن بيداغوجيا-التلقين تنتج السلبية لدى المتعلمين، حتى وإن كان بعضهم يعبر شكليا عن نشاطه وحيويته واهتمامه عبر التظاهر بالإصغاء والتفاعل مع ما يلقى عليه… والملاحظ أن عدد هؤلاء في انخفاض مستمر.
تؤكد بعض الأبحاث أنه عندما يسأل الآباء أبناءهم في نهاية اليوم الدراسي: “ماذا تعلمتم اليوم؟ّ”، فأجوبة هؤلاء تختلف حسب سِنِّهم ونوع العمل الذي قاموا به… وبذلك، فهي تكون كالتالي:
قمنا بإنجاز تمارين في مادة الرياضيات”، “صححنا واجبا في مادة الإنجليزية”، “درسنا أسباب الحرب العالمية الأولى…”.
إن هذه الأجوبة غنية بتنوعها، لكنها تشترك في خاصية واحدة مفادها أن أغلب التلاميذ لا يتحدثون عما تعلموه، وإنما عما فعلوه !
وعندما نلاحظ ما يقوم به التلاميذ، ونسألهم: “لماذا تفعلون هذا؟”، نكتشف أن سؤالنا يفاجئهم، لأنهم لا يتوقعونه، مما يجعل أغلبيتهم تجيب بنحو: ‘’ لقد طلبوا منا ذلك !”
ومن ثمة، نلاحظ أن التلاميذ يفعلون ما يقومون به، لأنه يُفرض عليهم فعله. لكنهم لا يعرفون سبب ذلك، والنتيجة أن تعلمهم يكون سطحيا أو شكليا، إذ لا يمنحون أية دلالة لما يقومون به، ولا يدركون معنى ما يدرسونه… وهذا ما يؤدي إلى افتقار عملهم لأي مدلول، ويجعل أفعالهم وتعلماتهم وحياتهم عديمة الجدوى ! ويصدق على هؤلاء ما قاله “كونفوشيوس”Confucius منذ حوالي خمسة وعشرين قرنا: “التعلُّم بدون تفكير هو عمل ضائع، والتفكير بدون تعلُّم محفوفٌ بالمخاطر”.
يتوصل كل من يمعن النظر في كتبنا المدرسية والممارسات التدريسية داخل الفصول الدراسية إلى أنها غالبا ما تجعل المدرس يطلب من التلاميذ أن يفعلوا ما يريد أن يقوموا به دون أن يعرف هو نفسه دواعي ذلك.
ليس للتلاميذ والمدرسين اهتمامات ورغبات ومصالح واحدة. الفرق شاسع بين الطرفين، وهو محط سوء فهم رغم أن راشدي اليوم هم أطفال الأمس! وهذه ظاهرة شاملة. هنا، يمكن أن نستحضر السؤال الذي وُجِّه لـ “غاليلي ” Galiléeعند محاكمته: كيف أمكنك أيها الإنسان الذكي أن تهتم بكريات حمراء تتنقل على سطح مائل في الوقت الذي يهتم فيه الناس بأصل الإنسان ومصيره…؟. لا يمكن لنشاط مَّا أن يكون مهما إذا لم يكن له معنى لدى من يقوم به. ينطبق هذا على مجال التعليم-والتعلم بالخصوص. ويشكل الوعي بأن أغلبية الأنشطة المدرسية لا معنى لها بالنسبة للتلاميذ أمرا مهما يتعين إيجاد حل له…
لقد انتبه الباحثون منذ سنوات إلى أن منح معنى للتعلم هو أمر حاسم، كما يتحدث الجميع اليوم عن ضرورته. لكن الممارسة اليومية تكشف أن أغلب الأنشطة لا تهم التلاميذ، لأنهم لا يرون أية فائدة نظرية أو عملية في ما يتعلمونه أو يفعلونه. كما أنه من النادر جدا أن يجد التلاميذ متعة في التعلم، لأن ما يهمهم أساسا هو النجاح في الامتحان تلبية لرغبات مدرسيهم وأولياء أمورهم. فهم لا يرغبون في التعلُّم، وإنما في الترقي الاجتماعي عبر ممارسة مهنة مهمة في المستقبل تدر عليهم دخلا يمكنهم من الاستقلال الذاتي، بل وحتى من الاغتناء إذا أمكنهم ذلك…! ويبدو أن أطفالنا وطلبتنا لا يمتلكون مشروع حياة بالمعنى السليم، لأنهم لا يجدون أي معنى لما يتعلمونه، ولا يرون أية فائدة ولا أي مستقبل لمعارفهم خارج المدرسة أو الجامعة، مما يجعلهم لا يرغبون فيها. ومع ذلك، فهم يطمحون إلى احتلال مواقع اجتماعية في المستقبل… وهذه ظاهرة غير طبيعية تجعلهم في تعارض مع طبيعة الأشياء ومنطقها.
ترتكز بعض الطرائق البيداغوجية على “الوساطة المعرفية” لجعل التلاميذ يكتشفون بأنفسهم العمل الذي ينبغي أن ينجزوه. ولإحداث ذلك، يقترح البيداغوجيون وضعيات غريبة على التلميذ، تضعه في صراع مع ذاته، حيث يشك فيها ويسائلها، ويقطع مع تصوراته الأولية الخاطئة عبر تجاوز ما كان يراه ويعرفه… لكي ينفذ إلى الشيء الذي يتعين عليه تعلُّمه، والذي هو كامن في هذه الوضعية التعلُّمية المفاجئة له التي يضعه المدرس فيها. ومن الأكيد أن التلاميذ يعبرون ويتأملون وينسجون علاقات بين الأشياء والبيانات والأفكار اعتمادا على تصوراتهم وتجاربهم المدرسية والحياتية… وقد يساعد هذا النشاط على فهم توجيهات المدرس واستيعابها… لكن، ألا يستغرق هذا وقتا طويلا؟ أليس هذا النشاط مصطنعا؟ وهل هذه هي أفضل طريقة لمنح المعنى لما سيأتي من أعمال؟
إن تحديد ما يجب فعله شيء أساسي، لكن هل يجب المرور عبر وضعية تطرح المشاكل وتثير الأسئلة…؟ أليس من المفيد جعل التلاميذ يتدخلون في مضمون مسألة فعلية وفي الأنشطة الممكنة التي ينبغي القيام بها لحلها؟ أليس من الأفضل أن يكون الطابع الغامض كامنا في الوضعية ذاتها، وليس في عدم معرفة المهمة التي ينبغي إنجازها؟
نادرا ما يكون الحافز لدى تلاميذنا مرتبطا بالمضمون، إذ قد يكون التلميذ محفزا بالحصول على مكافأة، أو الاعتراف به، أو بالبحث عن مستقبل سوسيو-مهني يرفع من شأنه… وهكذا، لا يهم التلميذ العمل في حد ذاته، إذ يكتفي بإنجازه. ويتم ذلك لأسباب لا علاقة لها بأهدافه الخاصة ولا بأهداف المدرس…
غالبا ما يتضمن النشاط الذي يُطلب من التلاميذ أن يقوموا به معنى خفيا له علاقة وثيقة بأهداف المدرس. ولا يتم الانشغال بالكشف عن هذا القصد وتقديم الفائدة من العمل المفروض على التلميذ ودوره. فالتلميذ يفعل لأنه يُطلب منه ذلك، حيث يفعل من أجل أن يفعل دون معرفة سبب فعله ولا مغزاه! وإذا وجد معنى لما يفعله، فنادرا ما يكون مطابقا للمعنى الذي يمنحه إياه المدرس. فالمعنى الذي يعطيه التلميذ لنشاط معين يرتبط بشكل وطيد بتاريخه الشخصي وتجاربه وتصوراته الخاصة، وتجربته في الحياة، وحاجاته ورغباته ووجدانه… ويمكن لهذا المعنى أن يشكل عائقا لأنه يمنع التلميذ من إدراك مكمن المشكلة أو المسألة الفعلية، ونوع التعلُّم الذي يمكن أن يستفيده منها…
هكذا، يتم اختزال مكتسبات التلميذ عندنا في اجترار معارف جاهزة نمطية، إذ يتم فقط شحن ذاكرته بكلمات جوفاء خالية من أي مدلول لكونها معلومات مشتتة تفتقر إلى الترابط والانسجام. وهذا ما يجعل معارفه غير مفيدة في حل مسألة أو مشكلة لاحقة، كما أنها لا تؤهله للانخراط في وضعيات جديدة وفهمها، كما لا تسمح له بالتوفر على أي مشروع حالا أو استقبالا.
نتيجة ذلك، يبدو أن منح المعنى للتعلم مسألة صعبة، مما يفرض علينا طرح السؤال التالي: هل بناء المعنى من لدن المتعلم هو طموح غير واقعي أو طوباوي؟
عندما لا نستطيع الارتكاز على معرفة تهم التلميذ، وحينما نعتبر أن منح المعنى يتم فقط من خلال النقط أو العلامات المحصل عليها من قِبَل التلميذ في الامتحان، فهذا لا يساعد على بناء المعارف… ولتجاوز ذلك، ينبغي أن تظل الوسيلة الوحيدة للتحفيز الفعلي للتلاميذ هي جعلهم ينخرطون في المقاربة التالية:
عندما يكون لمعرفة معينة معنى بالنسبة للتلميذ، يمكن للمدرس أن يعتمد على المضامين المفهومية في تعميق تعلم التلميذ… وعندما لا يكون للمعرفة أي معنى بالنسبة للتلميذ، يمكن للمدرس أن يبتكره عبر خلق وضعيات تعلُّمية مثيرة للتلميذ ومستفزة له…
بذلك، عندما يكون لمضمون معين معنى لأنه يتضمن أجوبة عن الأسئلة التي يطرحها المتعلم على ذاته، فمن غير المفيد اصطناع وضعية لاستنتاج معنى معين لها. وعندما لا يرى التلاميذ أية فائدة في معرفة معينة، فالوسيلة الجيدة لمنحها معنى هي قيام المدرس بتبني موقف مثير للمتعلم ومستفز له. لا يتعلق الأمر هنا بممارسة عدوان على التلميذ، بل بإثارة دهشته ومقاومته، والدفع به إلى فقدان توازنه عبر وضعه في مواجهة وضعية تجعله يشك في ذاته ويضعها موضع تساؤل، حيث يعي أن ما يراه وما يظن أنه يعرفه غير سليم ويمكن دحضه وتجاوزه (G. de Vecchi, N. Carmona-Magnaldi, 2007).
يقتضي ذلك وضع التلاميذ في وضعيات تطرح لهم مشكلا أو مسألة، حيث عندما ننجح في إثارة التلميذ، فهو يقوم برد فعل. وعندما يحدث ذلك، يكون هذا التلميذ قد بدأ يضع أصبعه على تشابك المعنى؛ وإذا لم يوقف المدرس دائرة عملية البحث التي يمكن أن ينخرط فيها، فقد يتقدم في تفكيره وتعلُّمه…
يجب الحذر من الوقوع في الأخطاء التي يمكن أن تؤثر على إرادة انخراط المتعلم في الأنشطة التعلُّمية، كما ينبغي ألا تكون هذه الإرادة بعيدة عن رغبته العميقة. ويتعين أن تكون هذه الأخيرة على صلة مباشرة بجعل المتعلم مسؤولا لكي يستثمر في التعلّم. ويعني منح المعنى، أحيانا، إرادة فعل شيء اكتشفنا أنه كان ضروريا لإشباع رغبة أكثر أهمية، جعلنا منها مشـروعا… (E. Charmeux).