“الكوجيتو” أغسطيني و ليس ديكارتي
الخميس 11 أبريل, 2019 11:05 محمد سعيدلا تظنوا أنني هنا أتوهم بأن ما يسمى ب”الكوجيتو الديكارتي” هو سرقة أدبية من طرف ديكارت للقديس أوغسطين، لا ليس كذلك، قد تعترضون على كلامي هنا و تقولون ب”أن كوني مسيحياً أقول هذا الأمر”، إعتراضكم مقبول، لكنه غير صحيح، لأنني هنا لا أكتب بتحيز إنطلاقا من عقيدتي المسيحية عن هذا الأمر، بل من قال بهذا الإستنتاج هو أستاذ لتاريخ الأفكار بجامعة نيويورك إسمه ريتشار دي سورجي، و هو باحث إنجليزي من أصول أسيوية، فأوغسطين المغاربي هو صاحب الكوجيتو و ليس ديكارت كما قلنا في حوارنا الصحفي مع جريدة الأول الألكترونية (15 يناير 2015)، و الذي كان في أربعة حلقات متتالية، و قد سبق للأستاذ الجامعي الدكتور عبد الله الحلوي أن أشار لهذا الأمر من قبل كذلك.
ففي التأمل الثاني لديكارت يوجد “الكوجيتو”، و هو يعني بأن الشك في وجودي هو شك في ذاتي الشخصية، و هو مستحيل عمليا، و علة استحالة الشك في وجودي هي أن شكي عبارة عن فكر، و كلما شككت كلما مارست عملية التفكير، وفي كل عملية شك إثبات لوجودي الفيزيائي، ففي “الكوجيتو” تظهر لنا قيمتان : قيمة نظرية و قيمة عملية.
فالقيمة النظرية هي أنها تجعل من “التشكيك المطلق”، فعل مستحيل منطقياً، فكلما شككت في شيء ما، كلما أثبت خصائصه الذاتية، و هي كوني أفكر، حتى عندما أنفي عن نفسي التفكير، و هذا ما يوقعنا في تناقض واضح في مسألة الوجود، فالوجود لا إتباث له إلا من خلال التفكير، أما القيمة العملية لفكرة “الكوجيطو” أنها تجعل منطق الفكر و أساسه هو الذات، فإتباث وجود الذات هو وجود للعالم، و وجود العالم لا يمكنك إتباثه إلا بوجود الذات، فوجود العالم ينتهي بإثبات موجد الوجود أي “الله” حسب الفهم الأوغسطيني الذي أخذه اللاهوتي طوما الإكويني فيما بعد، ففي إثبات الذات إعلاء لقيمة الإنسان بصفته فردا فريدا، أي ذاك الحل لإشكالية الوجود.
فكتاب “ريتشارد ديسورجي” عنوانه هو “الأفكار القديمة و الأفكار الحديثة بين ذاتية الحياة و الموت” 1، و هو صادر عن دار النشر – شيكاكو – سنة (2006)، يتناول فيه الكاتب موضوع “الكوجيتو الأوغسطيني” في الفصل الثاني عشر من كتابه إنطلاقا من الصفحات 219 في سياق حديثه عن حل أوغسطين لإشكالية معرفية أفلاطونية.
لقد ذكر “ريتشارد ديسورجي” معطيات نصية مهمة متعلقة ب”الكوجيتو الأوغسطيني”، ذلك أن حجة “الكوجيتو” مثلاً، لم تذكر في نص واحد عند أوغسطين، بل ذكرت في كتابات عديدة ككتاب “الحياة السعيدة” و “ضد الأكاديميين” و “حرية الإختيار و الإرادة” و أخيراً بكتاب “مدينة الله” الدائع الصيت، فرغم أن أوغسطين إستعمل صيغة الغائب في كل هاته الكتابات بخلاف ديكارت الذي استعمل صيغة المتكلم، فإن أوغسطين استعمل صيغة المتكلم في نصوص أخرى، و هذه الصيغة للمتكلم هي : “أنا إنخدعت بالشك إذن أنا موجود”، فأوغسطين إستعمل فكرة الكوجيتو في سياقات عديدة و مختلفة، بخلاف ديكارت الذي استعملها فقط لتجاوز الشك المطلق، و النص الذي إستعمل فيه أوغسطين “الكوجيتو” لإقحام حجة التشكيك المطلق هو نص “ضد الأكاديميين”، مما يعني أن استعمال أوغسطين لهذا المفهوم كان أعمق و أشمل و أوسع من ما استعماله ديكارت.
فأوغسطين هو واضع الكوجيتو و ليس ديكارت كما هو متداول حسب تحليل و دراسة الأفكار عند “ريتشارد ديسورجي”، لقد كان التراث المسيحي مرجعاً في غالبه لأوغسطين إلى حدود القرن الخامس عشر، و كذلك تراث مسيحي متميز يرجع للاهوتي طوما الإكويني الذي يعتبر نفسه تلميذ غير مباشر للقديس أوغسطين المغاربي، و قد يساعدنا ذلك في تفسير وجود ديكارتين قبل ديكارت مسيحيين من أمثال جبرائيل مارسيل الذي إستعمل مصطلح “الوجودية” لأول مرة، فهذه الكلمة لم تكن موجودة أو شائعة في الدوائر المسيحية، و لا سيما بعد التعليقات المعادية التي تضمنها المنشور البابوي “حول الجنس البشري” للبابا بيوس الثاني عشر سنة 1950 م، و مع ذلك فقد عاد الكتاب المسيحيون يتحدثون عن “الشخصانية” لكون وجود “الكوجيتو” في ذهنهم، و هو تعبير فلسفي لا يبتعد عن الوجودية.
فالشخصانية تيار فلسفي ظهر في فرنسا و أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرون، و يذهب هذا التيار إلى أن “الفرد” هو الواقعة الأساسية و العنصر الروحي الأول في الوجود.
إننا نصل مع القديس “أوغسطين” (354 – 430)، إلى أعظم و أقوى عرض وجودي عن فهمنا لذواتنا، فهذا العرض الوجودي كان له مغزى و لازال حتى اليوم عند الوجوديين المسيحيين و غيرهم، فهم يعترفون بأواصر القربى الفكرية مع مفكر شمال إفريقيا.
لقد وجد القديس أوغسطين في الإنسان نفسه سراً غامضاً لا ينضب، و من تم فإن الحقيقة و الفهم الوجوديان لذات الإنسان لا يوجدان في القضايا بقدر ما يوجدان في اكتشاف المرء لأعماق وجوده، من خلال التجربة المباشرة للحياة و الكينونة، فما عسى أن يكون الفهم إن لم يكن يحيا بنور العقل كما يقول نيتشه، غير أن ذلك ليس دعوة للبقاء في العزلة الذاتية للذات البشرية، فما يظهر واضحا من فهم القديس أوغسطين للذات هو على وجه الدقة ما يصر عليه الفيلسوف ديكارت.
ففي أخر كتاب “الإعترافاات ” لأوغسطين هناك عرض لنظريته الفلسفية عن الذات البشرية في إطار زمني، بحيث ترتبط بالماضي و الحاضر و المستقبل، و هذه النظرية تستبق، مرة أخرى، الأراء المحدثة عن الذات البشرية.
الكوجيتو، هو “يوجد”، و كان يعني أصلاً “يبرز” أو ينبتق، و من المرجح إذن أن الفعل كان يعطي ايحاء أكثر إيجابية مما عند “ديكارت”، فمعنى أن يوجد الشيء هو أن “يبرز” أو ينبتق من خلفية معينة بوصفه شيئاً موجوداً حقيقياً، و لو وضعنا هذه الفكرة في صيغة فلسفية أكثر لقلنا إن معنى أن “يوجد” الشيء هو أن “ينبتق” من العدم، غير أن فكرة الوجود عند أوغسطين هي “يبرز” في مكان ما، و هذا هو الكوجيتو الأوغسطيني الذي سرقه ديكارت.
ـ باحث في العلوم الإنسانية