الحزبيةُ الأوربيةُ الجديدة
السبت 13 فبراير, 2016 20:37 حسن طارق تحديث : 13 فبراير, 2016 20:41تمة تحولات هامة تخترق البنى الحزبية الأوربية، لا تخطئها تحاليل المتتبعين. تشهد على ذلك مجريات ونتائج الإستحقاقات الإنتخابية الأخيرة في أكثر من بلد من بلدان القارة العجوز. من ذلك مثلا، ما يقع من مخاضات سياسية عسيرة عقب إعلان نتائج التشريعيات الأخيرة باسبانيا، ذلك أن صناديق الإقتراع أفرزت خريطة سياسية مكونة من أربعة قوى سياسية، ورغم حلول الحزب الشعبي في صدارة النتائج، فهو لم يستطع أن يحصل على أغلبية مقاعد البرلمان، وهو ما فتح المجال أمام لعبة التحالفات المعقدة، حيث فشل زعيم الحزب المذكور في تكوين أغلبية نيابية، مما جعل الملك يكلف قائد الحزب الاشتراكي الذي حل ثانيا بتشكيل الحكومة، وإلى غاية تمكنه من تدبير تحالف حزبي يمكنه من أغلبية برلمانية مريحة، تسمح بإنبثاق طبيعي وسلس للسلطة التنفيذية، يضل إحتمال إجراء انتخابات تشريعية سابقة لآوانها في الربيع القادم، أمرا واردا.
وقبل ذلك بقليل كانت الانتخابات الجهوية بفرنسا، قد كرست تقريبا بما لايدع مجالا للتراجع، عن ميلاد ثلاثية حزبية مكرسة، تتميز على الخصوص بتعادل تقريبي في القوة السياسية والنفوذ الانتخابي، وتتشكل أساسا من القوتين التقليديين الممثلتين لعائلتي اليسار الاشتراكي الديمقراطي و اليمين الجمهوري، فضلا عن الجبهة الوطنية ذات الاتجاه اليميني المتطرف.
في المجمل يسمح تركيب سريع للوقائع السياسية والانتخابية في أكثر من بلد أوربي، ولتحولات الخرائط الحزبية، بالخروج بالخلاصات الأولية التالية:
أولا: بداية تصدع الثنائية الحزبية التي بصمت الحياة السياسية، في عديد من الدول الأوربية، لما يقارب مدة نصف قرن، في صيغة تقاطب تقليدي بين اليمين واليسار. يحدث هذا في قلب غالبية الديمقراطيات الغربية الرائدة، إذ سواء في بريطانيا، إسبانيا، فرنسا، ألمانيا …، فإن نمط التناوب السياسي على الحكم بين حزبين كبيرين، لم يعد ممكنا إعتباره قاعدة عامة، إذ إلى جانب “العمال “و “المحافظين ” أصبحت الخريطة الحزبية الانجليزية أكثر تعددا، وظهرت قوى سياسية معتبرة مثل “الديمقراطيين الليبراليين ” ،”إستقلال المملكة المتحدة”،”الخضر” أو غيرهم ، حيث بات معها منطق التحالفات والحكومات المستندة إلى أغلبية مكونة من حزبين أو أكثر أمرا معمول به خلال الولايات التشريعية الأخيرة، و في اسبانيا فإن المشهد الثنائي المبني على تقاطب حاد بين “الاشتراكي العمالي “و “الحزب الشعبي”، قد صار جزءا من الماضي مع بروز قوى سياسية جديدة مثل “نحن نستطيع “أو “مواطنون “. والواقع أن هذا التصدع الذي لايعني -خارج الحالة اليونانية-بالضرورة إنهيارا تاما للقوى السياسية التقليدية ، يعكس تنظيميا وسياسيا نوعا من الإنهاك الطبيعي الذي تعرضت له هذه القوى المتناوبة على الحكم منذ عقود، أما على المستوى الفكري والايديولوجي فإن الأمر له علاقة بضعف التقاطب بين المشروعين المقدمين، حيث يبدو اليسار واليمين التقليديين يقتربان أكثر من منطقة الوسط، خاصة فيما يتعلق بالإجابة على تحديات مابعد دولة الرعاية وعلى أسئلة السياسات العمومية الاجتماعية .
ثانيا : بروز مُلاحظ لحساسية يسارية جديدة ، تتحدث لغة سياسية بنبرة مختلفة ، وتقدم أجوبة جريئة ، مستفيدة من أشكال مبتكرة في التعبئة السياسية ومعتمدة على جيل جديد من القيادات الشابة ، وإذا كانت هذه الحساسية تبقى بشكل من الأشكال امتدادا لتجارب “يسار اليسار” التي ظلت حاضرة طوال القرن الماضي في التاريخ السياسي الأوربي ،فإنها تختلف جذريا مع هذه التجارب خاصة على مستوى القدرة على تكريس نفوذ انتخابي غير مسبوق .
ثالثا: تصاعد مخيف لتيارات اليمين المتطرف ، ولأطروحته الشعبوية، التي تقدم مشروعا هوياتيا يشبه ترسيما لإيديولوجيا الخوف الذي يسيطر على فئات واسعة من الطبقات الوسطى ،اتجاه نمط حياة تعتبره مهددا من طرف الأجانب والهجرات، أما على المستوى البرنامجي فتقترح إجراءات سهلة منطلقة من هواجس أمنية محضة . والملاحظ هنا أن هذه التيارات التي كثيرا ما تنزاح إلى خطابات الكراهية والإسلاموفوبيا ،إستطاعت الإنتشار بشكل مفارق حتى داخل بلدان أوربية لا تعاني إقتصادياتها من صعوبات كبرى ،و يتبعد تاريخها الخاص كثيرا عن نموذج الدول الأوربية المتميزة بأجيال من الهجرات المكثفة .
رابعا: على عكس ما بشرت به” يوتوبيا ” الوحدة الأوربية لدى أجيال من المؤمنين بأوربا السياسية كأفق الإنتماء ، وفكرة المواطنة الدستورية الأوربية ،تخترق الأحزاب السياسية الأوربية اليوم حساسية مناهضة لأوروبا ،يظهر ذلك بوضوح سواء في ألمانيا أو انجلترا أو غيرهما .وأكثر من ذلك فإن سقف الدولة الوطنية نفسه أصبح موضوعا للتشكيك من طرف تيارات حزبية صاعدة، نفكر هنا في الحضور المتزايد لكثير من التيارات القومية ذات المطالب الاستقلالية ،داخل إسبانيا أو هولندا و غيرهما من الدول الأوربية .