لعبة النسيان*
الخميس 23 يوليو, 2015 10:32 جمال بودومة تحديث : 23 يوليو, 2015 10:34نحن شعب لا يحب أن يتذكر، شعاره المفضل في الحياة: “عفا الله عما سلف”. والسبب، ربما، يرجع إلى “التروماتيزم” العميق الذي خلفته “سنوات الجمر” في العقليات والنفسيات. نعرف أن هناك أشياء جميلة في الماضي، لكن نعرف أيضا أن فيه أوفقير وتازمامارت والصخيرات والبصري وبن بركة وجثث تفتش عن قبور، ونفضل النسيان. ولا يبدو أننا سنشفى عما قريب. “الوصفة الطبية” الذي أوصت بها “هيئة الإنصاف والمصالحة” في عهد المرحوم ادريس بن زكري لم يتم احترامها: أن تجلس المريض على أريكة كي يتكلم ليست إلا بداية العلاج، ونحن توقفنا عند مرحلة الأريكة، وبدل أن نكمل الحصص، أعطينا للضحايا نقودا كي تساعدهم على النسيان، لذلك مازالت أعراض المرض على حالها. وهاهو التضييق على الحريات، وتوقيف المعارضين، وقمع التظاهرات، والتحرش بالجمعيات الحقوقية، وشتى أصناف الانتهاكات… تعود رويدا رويدا إلى المشهد ونتعود عليها بالتدريج، كأننا لم نستفد شيئا من دروس الماضي. بل إن البعض صار يدافع عنها، باسم الخطر الإرهابي وحماية المقدسات والدفاع عن الوطن. المقدسات والوطن والأمن فوق رؤوس الجميع، لكن الدفاع عنها يمر عبر الحرية واحترام القانون وحقوق الانسان، لا عبر الشطط في استعمال السلطة ورفع العصا الغليظة في وجه من لا يعجبون المزاج الأمني… كيف يضطر مواطن مغربي في 2015 إلى الإضراب عن الطعام في جنيف، امام مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة، من أجل مطلب سخيف: الحصول على “شهادة السكنى”؟ وهي الشهادة التي لا يتورع أعوان السلطة على منحها لمن هب ودب في أي عنوان يريدون مقابل عشرين درهما لا اكثر!
ومادمنا “تذكرنا” “هيئة الإنصاف والمصالحة”، لا بأس ان نسجل أن مختلف الانتهاكات التي تحدث اليوم، تجري وسط صمت متواطئ من طرف “المجلس الوطني لحقوق الانسان”، لدرجة لم نعد نعرف معها هل ادريس اليزمي هو وريث بن زكري أم صيغة معاصرة لبوبكر الحسوني، الممرض الذي كلفته الدولة بتتبع الحالة الصحية للمعتقلين السياسيين، أيّام “الكاب1” المشؤوم؟!
حتى في المجال الإبداعي، الذاكرة في المغرب لا تساوي بصلة: الآثار نبول عليها، والمخطوطات نكدسها في “الكاراجات”، والمتاحف تملأها القطط، وعندما يموت أحد المبدعين لا نخسر عليه أكثر من “الله يرحمو مسكين”، مع روبورتاج عن تشييعه في نشرة الاخبار. وإذا كان محظوظا، يقام له تكريم يشبه الجنازة، تُعدد فيه مناقب الفقيد قبل أن يشطب نهائيا من الذاكرة. “الحي أبقى من الميت”. نحن البلد الوحيد، الذي يبول فيه الناس على الجدران الأثرية بلا مشاكل، رغم أنها جريمة يستحق مرتكبها أن يساق إلى المحكمة قبل أن يربط حزام سرواله! حاول أن تمشي جنب الأسوار التاريخية، التي بنيت منذ قرون في فاس أو مكناس أو مراكش أو الرباط، وستكتشف بعد كل عشرة أمتار مرحاضا في الهواء الطلق، مع نصائح يخطها الجيران الذين تزكمهم الرائحة، من قبيل العبارة الكلاسيكية: “ممنوع البول ورمي الأزبال”، أو جملا أكثر تهذيبا مثل: “ماتبولش هنا آلحمار”، “هز رجلك آ لكلب”، “من بال هنا فهو ليس رجل”… وغيرها من التحذيرات المضحكة، التي لا تزيد “البوالين” إلا إصرارا على رش الحيطان ب”أوكسد الأمونياك”، كي تتفسخ مع مرور الوقت. وعندما تقرر الدولة إصلاحها، تلجأ إلى “السيما” والجير، دون مراعاة لأدنى معايير ترميم المآثر!
ولعل أبلغ صور الجحود يمكن أن تراها في مراكش، في أحد أزقة المدينة العتيقة، حيث يبول العابرون على قبر يوسف بن تاشفين دون رادع، ولا شك أن مؤسس الدولة المرابطية يأكل التراب ندما لأنه لم يوص بدفن جثمانه في الأندلس، التي كان يحكمها مثلما يحكم المغرب، هناك كان سيحظى قبره بالاحترام الواجب من طرف الإسبان!
كلما مات احد المبدعين، يجري الحديث عن مؤسسة تحمل إسمه لمدة شهر أو شهرين، قبل أن ينساه الجميع. أين مؤسسة محمد شكري؟ وأين مؤسسة محمد القاسمي؟ وأين ذاكرة محمد زفزاف، ومحمد خير الدين، وادريس شرايبي ومحمد لفتح… والآخرين؟ الشاعر عبد اللطيف اللعبي، أطال الله في عمره، بُحّ صوته وهو يصرخ، بين الجرائد والندوات، مطالبا بتأسيس “مركز للذاكرة”، والكل ينظر إليه مثل الأحمق. في النهاية قرر ان يوصي بكل أرشيفه ومخطوطاته لمؤسسة فرنسية!
* عن جريدة المساء