ترويض القرود

الخميس 13 أغسطس, 2015 13:47 جمال بودومة
إحاطة -

في منتصف التسعينيات، كنت طالبا في معهد المسرح بالرباط، عندما بدأت مشواري الصحفي كمتعاون مع جريدة “العلم”، التي كان يرأس تحريرها عبد الجبار السحيمي، معلم الأجيال رحمة الله عليه. ذات صباح كنت على موعد مع السي عبد الجبار -كما كان يناديه الجميع- وحين وصلت طلبت مني كاتبته ان أنتظر “حيت عندو شي ناس”. بعد خمس دقائق خرج الفنان نبيل لحلو من مكتبه و”زرب عليّ” بطريقته المضحكة: “السي بدومة انت كتقرا فالمعهد ديال المسرح؟ عاد هضر ليا عليك السي عبد الجبار”… ودون ان يتركني أردّ، حسم الموقف كأنه يعاتبني: “لا لا لا، خاصك تجي تمتل معايا فالمسرحية الجديدة!”…
كان نبيل لحلو وقتها يهيّء “محاكمة سقراط”، أحد أجمل عروض المسرح المغربي، وجاء عند الراحل عبد الجبار السحيمي كي يساعده في البحث عن ممثلين جدد، عن طريق نشر إعلان في “العلم”، لذلك لم يتردد في ان يطلب مني المشاركة معه بتلك العفوية الساخرة التي لا يتقنها أحد غيره، بعد أن أخبره السحيمي أنني ادرس في معهد المسرح. في النهاية، حين تمكنت من الكلام، شكرت “مجنون المسرح” على الدعوة واعتذرت منه لانني لا اطمح في أن أصير ممثلا، عندها حيّاني بحرارة وأكد لي أنه “يحترم الناس الذين يعرفون ماذا يريدون”، قبل أن يضيف أن “الثقافة والفن والصحافة لا تحقق لمن يمارسها إلا ثروة رمزية ومن أراد المال هناك ثلاثة طرق سهلة تقود إليه: تجارة المخدرات، بيع السلاح، والدعارة…” نظر اليّ كمن ينصح أخا صغيرا ورفع سبابته قائلا: “أنت مازالت في اول الطريق، اذا أردت الثروة لا تضيع وقتك مع الصحافة والفن، خرج لها كود”!

اليوم، كلما تأملت ما يجري في المشهد الإعلامي والثقافي والفني، أتذكر نبيل لحلو، الفنان العبقري الحكيم، سابق عصره الذي قذفته الصدفة الوجودية في البلاد الخطإ… صديقي نبيل، السينما اختلطت بالدعارة والفن امتزج بالحشيش والقوادون أصبحوا صحافيين، ولا حول ولا قوة الا بالله. كم من شخص يُحسب على الصحافة و الثقافة والفن رغم أن مكانه الطبيعي يوجد بين القوادين والمومسات. “آسيدي اللي بغا الدعارة يديرها… والسينما لاش؟ اللي بغا لقوادة يديرها والصحافة لاش؟” المفروض أننا نعيش في بلد التسامح والحريات، والله أعلم!
كثير من “الزملاء” يمارسون “القوادة” باسم “صاحبة الجلالة”، دون ان يرف لهم جفن، وهي ظاهرة زادت تفاقما مع تكاثر المواقع الافتراضية التي تستلهم خطها التحريري من الشعار المهني الشهير “كور وأعطي لعور”… لذلك لا يسع الواحد إلا أن يفرح بعودة الروح إلى موقع “لكم”، الذي يديره الزميل علي أنوزلا، لعله يعيد شيئا من المصداقية الى المشهد الاعلامي، ويُصالح القراء مع الصحافة، في زمن باتت فيه المنابر الورقية والرقمية تسيّر ب”التيليكوموند”، الا من رحم ربك. وكل ما تتمناه لأنوزلا وفريقه الطموح هو ان يصمدوا وسط العاصفة، دفاعا عن شرف المهنة. لان معظم المنابر التي دافعت عن هذا الشرف وصنعت مجد الصحافة المغربية في السنوات الاخيرة انتقلت الى رحمة الله أو تحولت الى نسخ باهتة من مشروع البدايات، تأكلها الشمس في الأكشاك بعد ان كان يلتهمها القراء التهاما. لائحة الصحف التي شيعت الى مثواها الأخير طويلة: “لوجورنال”، “الصحيفة”، “صوت الناس”، “الجريدة الاولى”، “الاسبوعية”، “نيشان”… ونحن تترحم على أوراقها الطاهرة، لا يسعنا إلا أن نقلق على مستقبل الديمقراطية في بلاد تتحول فيها الصحافة الى مقبرة جماعية!

لا ديمقراطية من دون صحافة حرة. خلال السنوات الاخيرة، مشى المغرب خطوات محترمة على درب التحكم في المنابر الإعلامية وتكسير أقلام الصحافيين المستقلين. بعد سنوات الانفتاح التي واكبت ما سمي ب”العهد الجديد”، والتي شهدت ميلاد صحف مستقلة عن السلطة والأحزاب، سرعان ما جرى “تسياق” المشهد الاعلامي ب”جافيل” و”ساني كروا” و”لما القاطع”… وأغلقت الصحف المزعجة وباتت السلطة تتحكم في معظم المنابر الباقية عن طريق الترهيب والترغيب.
هناك طريقة معروفة لترويض القرد، كي يؤدي حركات بهلوانية في السيرك او في ساحة ملأى بالفضوليين: يُعزل السعدان في غرفة رفقة “معزة” لمدة يومين، يقضيها المروض وهو يطلب من الدابة أن ترقص وتكرر ما يقوم به أمامها من حركات بهلوانية. “المعزة” طبعا تكتفي بالثغاء لأنها غير قابلة للترويض. في النهاية، يخرج المدرب سكينا ويذبحها أمام السعدان، “هذا مصير من لا يسمع كلام المروض!”. القرد الذي شاهد الدم يسيل أمامه، يلتقط الرسالة جيدا، وبمجرد ما يطلب منه القيام بحركة ما يسارع في تنفيذها ببراعة تفوق تطلعات المروض.

الصورة تنطبق تماماً على مشهدنا الصحافي. بعد أن رأوا طقوس الذبح التي مورست في حق أكثر من جريدة وصحافي، تحول كثير من “الزملاء” الى سعادين تتقن الرقص في هذا السيرك المفتوح الذي يسمى مشهدا إعلاميا. لحسن الحظ ان الصحافيين ليسوا كلهم قرود، بل هناك نمور ايضا. والنمر مهما روضته يعود الى سالف عهده. الى حريته وغريزته. لذلك يكون في السيرك دائماً شخص مسلح، تحسبا لأي حركة تصدر عن النمر خارج تعليمات المروض، كي يقتله في الوقت المناسب. وثمة عدد من الزملاء غادروا منابرهم مطرودين لأنهم رفضوا بيع أقلامهم والارتكان الى التعليمات بدل مصادر الخبر، وتواجهوا مع مدارئهم. والواقع أن بعض مالكي الجرائد لا يلعبون مع النقود، بين المال والضمير يختارون المال بلا تردد. وثمة صحافيون-طحالب، لا يعرف احد من اين تسلطوا على المهنة، لا يستطيعون حتى كتابة خبر صغير، ومع ذلك تسلقوا سلالم الثروة في وقت قياسي، بعد أن البسوهم قبعات وطرابيش اكبر من رؤوسهم، وحولوهم من صحافيين مبتدئين الى “رؤساء تحرير” و”مدراء مواقع”، كما يقول المثل المغربي: “ملي كيشرفو السبوعا، لقرودا كيلبسو الطرابش”… الصحافيون الذين رفضوا المساومة والخضوع، وجدوا أنفسهم منفيين اختياريا او اضطراريا أو مسجونين او ممنوعين من الكتابة وحولتهم الدعاية الرسمية من “إعلاميين مهنيين” الى “معارضين للنظام”، كي تضرب مصداقيتهم. لا، لسنا معارضين سياسيين ولا قرودا في سيرك، بل نحن صحافيون، كل ما نريده هو ممارسة المهنة التي نعرف في البلاد التي… نحب!

البلاد التي…

جريدة المساء/ الخميس 13 غشت 2015