قضَيْتُ يومًا شاقًّا ومرهِقًا في استوديوهات عين الشّق. سجّلْتُ ثلاث حلقات من “مشارف”. معرض الدار البيضاء الدولي للنشر والكتاب فرصةٌ لا تعوّض لتقريب أكبر عدد من التجارب الأدبية العربية من جمهور “مشارف”.
منذ الصباح، وأنا أدركُ أنه سيتمُّ الإعلان عن القائمة القصيرة للبوكر في أيّة لحظة. لكنني أرْجَأتُ الانشغال بنتائجها لما بعد التصوير. صديقي ناصر عراق، الصحفي والروائي المصري، قضى معي اليوم كاملا في الاستوديو. بدَوْتُ له غير منخرطٍ كفايةً في طقس الترقّب. كنتُ متوجّسًا قليلًا. بدليل اندفاع الأدرينالين الذي كان يُذكّرني، بين الاستراحة والأخرى، بأنّ ثمّة رواية لي قد تظهر ضمن القائمة القصيرة. ومع ذلك، كنتُ مستعدًّا نفسيًّا لكل شيء. هناك روايات بقيمة أدبية عالية لم تصعد إلى اللائحة الطويلة. والمؤكَّدُ أنّ القائمة القصيرة لن تضمّ أفضل الأعمال وبشكلٍ قاطع. دون أدنى تشكيكٍ في جودة الروايات التي تمّ الإعلان عنها اليوم، والتي لم أقرأها بعد. وهو ما سأبادر إليه مباشرةً بعد انفضاض معرض الدار البيضاء. لكي تربح كل واحدة من روايات القائمة القصيرة قارئا إضافيا. إذْ ما قيمةُ الجائزةِ إنْ لم تكُنْ محفّزًا على القراءة وآليةً لتوسيع دائرة القرّاء؟ هكذا فكّرتُ في الموضوع منذ البداية، وأنا أتجاوَبُ مع رغبة الدكتورة فاطمة البودي في ترشيح “هوت ماروك” للبوكر باسم دار العين. وأنا سعيدٌ بكلّ هؤلاء الذين انضمّوا إلى قرّاء وأصدقاء “هوت ماروك” بإيعازٍ من البوكر ولجنتها وتفاعلًا مع اختيارها ضمن القائمة الطويلة.
الجائزةُ محرّضٌ حقيقيٌّ على القراءة. إنّها سبّابةٌ نحتاج منها أن تشير إلى الأعمال الجدّيّة في مناخ أدبي يختلط فيه الحابل بالنابل، وتتكالب فيه رداءة أحوال النشر مع رداءة شروط المتابعة والتلقّي، ليلتبس الأمر في المحصلة على القارئ العام الذي -ومع توالي الخيبات- قد ينتهي به المطاف إلى العزوف عن القراءة. لذا ربّما على الكُتّاب أن يتعاملوا معها بحساسيّة أقلّ، ببعض النسبية، وبروحٍ رياضيّةٍ أيضًا. فنحن هنا في مقام الأدب، حيث الذائقة الفنيّة والحساسية الأدبيّة ومزاج التلقّي جزءٌ لا يتجزّأ من عملية التقييم. ومن حقّ المحكّمين أن تكون لهم اختياراتهم الجمالية، وأن يبلوروا في مداولاتهم مزاجا عاما ينحو بخياراتهم في الفرز والانتقاء نحو هذا الاتجاه أو ذاك. علينا أن نحترم الأمر ونتعامل معه دونما مبالغة أو إفراط.
على الصعيد الشّخصيّ، لا أعرفُ أيًّا من أعضاء لجنة التحكيم لجائزة البوكر هذه السنة. باسثناء لقاءٍ خاطفٍ جمعني بالروائية والناقدة سحر الموجي ذات ملتقى. لكنّني أنزّههم عن الانحياز مثلًا ضدّ بلدٍ بعينه، كما رأى بعض المتفَسْبِكين من الأصدقاء الذين اعتبروا غياب “هوت ماروك” و”المغاربة” عن اللائحة موقفًا من المغرب. ويكفي أن اللائحة الطويلة لم تضمَّ أيَّ فلسطينيٍّ رغم أن رئيستها فلسطينية.
وحتى الجدل المرافق للجائزة ربما كان دليل صحة وعافية. إنه يُؤكّد الانخراط الجماعي في عملية التقييم التي تختلف حتمًا حسب اختلاف مرجعيات القرّاء ومستويات القراءة. كما أنه يعطي صدى أكبر للأعمال الروائية موضوع التقييم. سواءٌ حالفَتْها القوائم أَمْ لا. فحتى المعترضون على اختيارات لجنة التحكيم، تجدهم يدافعون عن اختياراتٍ فنيّةٍ أخرى ما كان لهم أن يتبنّوها تلقائيًّا وبشكلٍ حاسمٍ خارج دينامية الجائزة. كما أنّهم وَهُمْ ينتصرون لعنوانٍ ما، لا يُلغون العناوين الأخرى بالضرورة. ففي ساحة الأدب متّسعٌ للجميع. وهذا كله من مصلحة القارئ في النهاية، لأنه الحكم الأول والأخير.
وأخيرًا، أهنّئ الأدباء الذين تمّ اختيار أعمالهم ضمن القائمة القصيرة، وبعضُهم أصدقاء أعزّاء، سأقرأ رواياتهم بالتأكيد، كما سأقرأ بعض روايات اللائحة الطويلة التي وصلَتْني عنها أصداء طيّبة. وهناك أعمال ظلّت بعيدة عن الجوائز وحساباتها سأقرأها بالمحبة اللازمة وأنبِّهُ لها كما اعتدْتُ أن أفعل. فالأصل هو القراءة والتّحريض عليها. أمّا الذين لا يقرَؤون أصلًا لا الأعمال التي “فازت” بجوائز ولا تلك التي “أخفقت”، ويكتفون من الموضوع كلّه بالاصطياد في الماء العكر، مسفّهين أحلام الفائزين تارةً ومتشفّين فيمن لم تحالفهم قوائم اللجان، فهم جزءٌ من انحطاطٍ شاملٍ إذا كان لـ”هوت ماروك” من فضْلٍ، فهو أنها حاولَتْ رَصْده وتحليله.
كان اليومُ شاقًّا. ومع ذلك، عرّجتُ في المساء على المعرض للقاء الأصدقاء. ولاقتناء المزيد من الكتب. ذاك أنّ القراءة هي الأصل، وهي الغاية والقصد.