احتاج سعد الدين العثماني لأكثر من 48 ساعة حتى يستوعب أنه أضحى رئيسا جديدا للحكومة مكلفا بتشكيلها، وملزما بـ”تسريح” القنوات التي تعرضت للاختناق والانسداد، بعد أزيد من 5 شهور من المفاوضات التي أصابت الجهاز الهضمي لرئاسة الحكومة بالإمساك في الزمن البنكيراني. لذلك، كان طبيعيا أن يعبر العثماني، وهو يحاول استيعاب ما يجري، عن حجم مفاجأته بالتعيين الملكي، ليقول أمام الملأ، في أولى تصريحاته، إن “التعيين الملكي كان مفاجئا لي، وبالتالي لكل مُفَاجَأ دهشة، فأعينونا حتى تمر هذه الدهشة”، حسب ما جاء في صحيفة “آخر ساعة” في عدد الثلاثاء.
خريج مدرسة إخوانية محضة
لقد كان العثماني ثاني اثنين في قيادة البيجيدي، وثالث الثلاثة ضمن المبشرين برئاسة الحكومة، وهي أرقام تعني “الحظ” عند الكثير من المؤمنين. غير أن حظ العثماني كان أكبر أمام منافسيه الرميد والرباح، اللذين لم يكونا قد توفرا بعد على البروفايل اللازم لرئيس الحكومة في المغرب.. غير أن العثماني، بالرغم من تطبيعه التدريجي مع منصبه الجديد، سيحتاج، حسب الذين يعرفونه، إلى وقت طويل حتى يصدق أنه أصبح بديلا لرئيسه في الحزب عبد الإله ابن كيران.. ذاك “الأمير” الذي احتضن العثماني ذات يوم من سبعينيات القرن الماضي بالرباط، حينما كان خليفة لعبد الكريم مطيع، الزعيم الروحي لتنظيم الشبيبة الإسلامية، الذي خرجت من رحمه النخبة الحاكمة الآن في البيجيدي.
يصفه كثيرون برجل التوازنات داخل حزب العدالة والتنمية، والحكيم الذي يعرف كيف يُصرِّف مواقف الإسلام السياسي، دون إثارة للزوابع. وفوق ذلك يعتبره أصحاب هذا الوصف بأحد قادة البيجيدي الذي ظل ينافس ابن كيران على الزعامة، بحكم روابطه الوثيقة مع كافة أعضاء الأمانة العامة للمصباح، حتى أن كثيرين اعتقدوا، فور إعفاء العثماني من وزارة الخارجية في أول تعديل حكومي أصاب الحكومة السابقة، أن الرجل تعرض لطعنة من رفيقه في الدرب ابن كيران، وأنه لو أعلن وقتها عن خروجه من الحزب وتأسيس حزب له لانضم إليه كثيرون من البيجيديين. لذلك، يرون في سعد الدين رجل المرحلة، الذي قد يكسب باللين أكثر مما قد يكسبه بالشدة. وأن اختياره بديلا لابن كيران كرئيس حكومة جديد، من شأنه أن يحدث انقلابا كبيرا في موافق الحزب، ما دام أنه، يقول هؤلاء، قادر على لعب دور ورقة الجوكر للتخفيف من وطأة الانسداد الذي طبع المشهد السياسي في المغرب طيلة خمسة أشهر الماضية.
غير أن آخرين، بالرغم من ابتسامته الجاذبة التي تشيع نوعا من الانشراح، ظلوا يتوجسون من الرجل، منذ تسلم مشعل زعامة حزب العدالة والتنمية من عراب الإسلاميين الدكتور الخطيب سنة 2004.. وبالتالي، فهو، بالنسبة إليهم، لن يخرج عن قاعدة “ليس في القنافذ أملس”، مهما كان موقعه، سواء في الحزب أو السلطة، خاصة أنه، بحسب هؤلاء، خريج مدرسة إخوانية محضة، لها ماض مظلم في كثير من الأقطار العربية، ضمنها المغرب.
خلال سنة 1956، استقبل الفقيه امحمد العثماني مولوده الأول ببيته الكائن بزنقة المدارس بإنزكان.. المدينة السوسية الهادئة التي عُرفت وقتها بتعايش المسلمين واليهود المغاربة الذين بسطوا تجارتهم في كثير من أحيائها، وبالتالي كانت صرخة هذا المولود وحدها من شقت هدوء المدينة، في ذاك اليوم المؤرخ في 16 يناير من السنة ذاتها، معلنة عن وضع الباتول، زوجة امحمد العثماني، ولدها البكر، ليختار له الأب الفقيه اسم سعد الدين.
وعلى الرغم من أنه البكر بين إخوته الخمسة (زين الدين، خالد، محمد توفيق، صلاح الدين وثريا) إلا أنه كان، بحسب من احتكوا به في طفولته، خجولا غير مهيمن على أشقائه، ومنعزلا بعض الشيء عن أقرانه من أبناء الحي، وإن كان يشاركهم أحيانا بعض الألعاب كـ”حابة” و”البي”، على اعتبار أنه ظل تحت أعين الوالد، وأن على ابن الفقيه أن يكون القدوة الذي يحتذى به في الحي ومفخرة لزواره ومريديه. هجرته المبكرة رفقة الأسرة إلى اشتوكةآيت باها، والاستقرار بالمدرسة العتيقة “إداومنو” التي كان والده قيِّما عليها، ربما ساهمت في عزلته، أو بالأحرى الانخراط المبكر في العالم الفقهي للأب امحمد، خاصة أنه قضى هناك السنوات الأربع الأولى من حياته.
وبرغم ازدياده بإنزكان، إلا أن العثماني يصر دائما على ذكر أصوله التافراوتية، ولا ينفك يتحدث عن مناقب أجداده الذين وسموا دوار “أسكارو” بالعلم والفقه وأصول الشريعة، كما ظل يقدم نفسه على أنه ابن بيئة سوسية تتكلم اللهجة الأمازيغية “تشلحيت”، وتحافظ على شعائرها الدينية، وأنه تتلمذ أولا على يد والده وبعض من علماء سوس، داخل جمعية كان العلامة المختار السوسي من مؤسسيها.
العمل الدعوي
من التعليم العتيق إلى الابتدائي، درس العثماني في إعدادية وثانوية عبد الله بن ياسين بإنزكان. هناك، أخذ ينخرط تدريجيا في الصراع الفكري والإيديولوجي بين اليساريين والإسلاميين، الذي كان مخاضه الأول يجري بمختبر الثانويات بالمغرب خلال سبعينيات القرن الماضي، وهناك أيضا، بثانوية عبد الله بن ياسين، تعرف العثماني أول مرة على الراحل عبد الله باها، الذي كان يكبره بسنتين، ونهلا معا من معين التراث الفقهي لوالد العثماني، قبل أن ينخرطا في جماعة الدعوة والتبليغ، ويحضران مجالسها ويشاركان في خرجاتها الدعوية. غير أن السبل ستفرق بينهما بعد انتهاء المرحلة الثانوية، إذ سيرحل باها سنة 1975 إلى الرباط لإتمام دراسته في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، بينما سيولي العثماني وجهه شطر الدارالبيضاء، ليستقر به المقام بكلية الطيب والصيدلة، وكراء شقة رفقة بعض الطلبة بحي ابن جدية.. ويتذكر أحد أصدقائه أن العثماني كان، بحكم أنه ميسور الحال، الوحيد الذي يتوفر على دراجة نارية بينهم، كما كان يبتعد كثيرا عن المطبخ، وحتى إذا ما دعت الضرورة إلى دخوله لا يتقن من الوجبات سوى أكلة “البيض وماطيشة”.
خلال هذه المرحلة، وبحكم مرجعيته الدينية، جذبه خطاب حركة الشبيبة الإسلامية لمؤسسها عبد الكريم مطيع، المنفذ الذي مهد لتوغل الفكر الإخواني القطبي للإخوان المسلمين بالمغرب، فهو الآخر تأثر بكتاب “معالم في الطريق” لسيد قطب، ومن أفكاره أوجد له موطئ قدم بالرباط، حينما التحق بورثة مطيع في الشبيبة الإسلامية، ابن كيران وباها وبوخبزة وآخرين، حيث ساهم من موقعه في انفصال شلة ابن كيران عن الشبيبة الإسلامية، وتأسيس الجماعة الإسلامية، التي أخذت لها تلاوين كثيرة قبل أن تتحول إلى حزب العدالة والتنمية، وإن كان قد عاش قبل ذلك تجربة سجنية قصيرة رفقة الشلة بمعتقل درب مولاي الشريف، بسبب كتابة شعارات وتوزيع مناشير معادية للنظام وقتها.
اليوم، يوجد الدكتور سعد الدين العثماني في موقع بالغ الحساسية، لا يحتاج منه بالضرورة خبرته الطويلة كطبيب نفسي، ولا يتطلب منه استثمار “تراثه” كواحد من أبناء الحركة الإسلامية التي شربت ما يكفي من معين “الإخوان”، بقدر ما يحتاج إلى سياسي بمواصفات رجل الدولة، يغلب مصالح الوطن على مصالح الحزبية الضيقة، وينتصر للديمقراطية والمكتسبات التي حققها المغاربة كشعب منفتح على ثقافة التسامح والاختلاف. وهذا من شأنه أن يساعده على تذويب جبال الجليد، التي تكونت بين البيجيدي والأحزاب الأخرى، في زمن رئيس الحكومة المعفي عبد الإله ابن كيران، وإن كان كثيرون يتوقعون أن يحقق العثماني فتوحات “عثمانية” في زمن المشاورات، للتنفيس عن الزمن السياسي الذي كبحته مزاجية زعيم البيجيدي. هؤلاء يضيفون توقعا آخر، يقول إن البيجيديين قد يعيشون تجربة جديدة مع العثماني كأمين عام جديد للحزب بديلا لابن كيران، مادام أنه رئيس حكومة معين من قبل الملك. وبالتالي، لا يستقيم أن يكون الرجل الذي يقود المغرب في مرحلة ما بعد ابن كيران خارجا عن إطار الزعامة.