شكلاط “طروفة وحكاك”، “كاشير”، “باسطات”، فرماج حمر، وعلب الجبن.. الطون بالزيت والطماطم، وعصائر بمختلف الألوان والأحجام، أكياس نكهات العصير، شعرية، ضامات البنة والعديد من السلع الاستهلاكية، التي تُعرف لدى المستهلكين بـ”سعلة رمضان”… كل ذلك، ومواد غذائية أخرى، تكدست فوق عربات مجرورة “خنقت” أرصفة شارع محمد السادس بـ”كراج علال” بمدينة الدارالبيضاء، تنتظر غزو الموائد المغربية في شهر الصيام، وفق ما جاء في تحقيق نشرته “آخر ساعة” في عدد نهاية الأسبوع.
منتوجات مجهولة المصدر وبهويات تجارية غير معروفة، تباع بأبخس الأثمان، إذ تتراوح بين 5 دراهم و20 درهما لـ”الحبة”. حين معاينة هذه المنتوجات عن كثب، تكتشف أن كثيرا منها شارفت على نهاية مدة صلاحيتها، لم يبق إلا شهر أو شهران فقط لتدخل في حكم “البيريمي”.. أما المنتوجات الأخرى، التي تبدو، من خلال تواريخها البارزة، أنها صالحة للاستهلاك لسنة أو أكثر، فإن السؤال الأهم هو هل تواريخها حقيقية أم مفبركة؟ وما مصدرها؟ ومن يوزعها؟ ولصالح من؟ ولماذا تكثر مع بداية شهر رمضان الفضيل؟
“آخر ساعة” حاولت تتبع فصول حكاية “سلعة رمضان”، ووقفت على معطيات مثيرة، وأعدت التحقيق التالي!
هاد الشي ديال الدرويش!
“الرخا والريباخا.. هاد الشي ديال الدرويش اللي ماعندو ريش وباغي يعيش”، هذا هو شعار من يمتهن بيع “سلعة رمضان” عبر عربات مجرورة (كرارس).. نساء يتجمهرن حول إحدى العربات في زحام يخنق الأنفاس، في محاولة منهن الفوز بما يسمونهن بـ”تقدية رمضان”، مع مراعة شديدة لقدرتهن الشرائية. “حين يقترب شهر رمضان أحرص على اقتناء كل متطلبات المطبخ والمائدة.. وعند هاد الدراري كنلقى كلشي وبثمن مناسب”، هكذا تحدثت إحداهن لـ”آخر ساعة”، قبل أن تقاطعها رفيقتها موضحة: “كل هذه المنتوجات جيدة.. ولّفنا نشريوها، لأن أسعارها الحقيقية في المتاجر مرتفعة نوعا ما.. ونحن لا يمكننا شراؤها لأننا ببساطة عا دراوش”. لا تكتفي هؤلاء النساء، حسب ما عاينته “آخر ساعة” بشراء “حبة” واحدة وإنما يقمن بما يسمينه بـ”التكيال”، أي شراء ما يزيد عن 100 درهم من السلع، تتنوع ما بين فرماج، طون، و”حكاك مطيشة” و”شعرية” بأنواعها وعدد من المنتوجات الاستهلاكية الأخرى. “كيشريو من عندي كلشي.. وحتى حاجة ماكتبقى الحمد لله”، يؤكد أحد الباعة لـ”آخر ساعة”، قبل أن يضيف، وهو يصدح بأعلى صوته لجلب المزيد من الزبناء إلى “كروسته”، قائلا: “خويا السلعة مزيانة ولم يسبق لأحد أن اشتكى منها.. قرا التاريخ يبان ليك كلشي”. سألناه عن مصدرها فرفض بشدة الإفصاح أو مدنا بأية معلومة تقودنا إلى مصدرها أو حتى موزعها، إذ اكتفى بإطلاق لازمة موزونة يدندن بها وبأمثالها الباعة في “المارشيات” العشوائية: “هاد الشي زين وبنين وفيه الفيتامين، والدراوش عايشين منو كاملين”…
(ع. بيريمي) أخطبوط السلع “الغامضة”
تركنا العربة المجرورة، وبدأنا في عملية بحث أخرى عمن يدلنا على مصدر المواد الاستهلاكية المنتشرة بـ”العرام” هنا وهناك.. حاولنا تقمص شخصية “مول الشكارة”، وأننا نريد شراء بعض السلع لبيعها في (كرارس) حي البرنوصي، بعدما أيقنا أنه من الصعب الحديث معهم بهويتنا الحقيقية. انطلت الحيلة على أحد الباعة المعتمدين المشهور في كراج علال بلقب “الصحراوي”، قال لنا إن هناك مُصدرين أو بالأحرى موزعين كبارا بالجملة أو “لكرو” في العاصمة الاقتصادية، الأول يدعى (ع)، شهير بلقب (بيريمي) ينشط بدرب سلطان، وهو أحد أكبر موزعي هذه السلع في المغرب، “غتلقى عندو كلشي”.. أما الثاني، فيسمى “كعوى”، ينشط في منطقة درب غلف، وهو مختص فقط في المصبرات، وخاصة علب الطون…
تتبعنا معطيات “الصحراوي” لنصل إلى مخازن (ع. بيريمي)، هناك، اصطفت عدد من العربات والشاحنات و”الهوندات”.. أناس يشتغلون مثل خلية نحل، وعمال “طالب معاشو” يقومون بشحن الشاحنات بأنواع كثيرة من “الكارطون” التي لا يظهر محتواها، لكن على الأرجح أنها سلع غذائية، فيما يكتفي البعض باقتناء ما هو بحاجة إليه.
سلعة الشمال والتايلاند
في هذا المكان الحركي، حاولنا تجاذب أطراف الحديث مع بعض العمال بعدما أخبرناهم أننا بدورنا نريد اقتناء بعض السلع “نسترزقوا بها الله فرمضان”، سألناهم عن (ع. بيرمي)، فأخبرونا أنه قليلا ما يحل بهذه المخازن، وأنه لا يأتي إلا كل يوم جمعة بعد الصلاة ليوزع على الفقراء بعض “الحسنات”، وأن بعضا من أفراد عائلته هم من يتكفلون بتدبير شؤون المخازن الضخمة…
ومن أين يأتي بكل هذه السلع؟ تسأل “آخر ساعة”، ليجيب أحدهم قائلا: “من الشمال.. السلعة اللي كتجي من أوروبا كتباع هنا”، قبل أن يضيف أن هناك سلعا أخرى يوزعها (ع. بيريمي) غير معروفة المصدر، مرجحا أن تكون من دولة التايلاند. أغلب تلك السلع هي من علب المصبرات المائية والزيتية (طون، مشمش، جلبانة، زيتون…). لبيادر زميله، الذي كان جالسا على كرسي من علب معدة لحفظ البيض، إلى التدخل في الحديث بالقول: “هذه السلع هي جيدة لكنها مهربة (كونطر بوند).. يتم تجميعها بمدينة الفنيدق بعدما يتم تهريبها من مدينة سبتة المحتلة.. أو تأتي من مدينة الناظور عبر التهريب أيضا من مدينة مليلية المحتلة.. تحملها شاحنات كبرى إلى هنا (…) حاليا، هذا هو طريق هذه السلع التي تملأ أسواق وأحياء الدارالبيضاء في رمضان، خاصة بعدما جرى تشديد المراقبة على السلع المهربة من الجزائر منذ السنة الماضية”.
سلع مغربية “بيريمي”
“سلعة الشمال” تنضاف إليها منتوجات غذائية مغربية، وهي “الأخطر” على حد وصف (س.م)، أحد مستخدمي مخازن (ع. بيريمي)، الذي قال لنا، بعدما شدد على عدم ذكر اسمه، إن شاحنات (رموكات) تأتي إلى المخازن ليلا 4 أو 5 مرات في الأسبوع، تكون محملة بسلع انتهت صلاحيتها من بعض الشركات الكبرى أو من بعض الأسواق الممتازة في المغرب.. يتم تجميعها في أماكن سرية قبل أن يتم تفريغيها في مخازن وصفها بـ”المجهولة”. وأضاف (س.م)، دون تحفظ، أن في تلك المخازن توجد آلات تقليدية وأخرى متطورة فضلا عن مستخدمين آخرين أسماهم بـ”صحاب الثقة”، أي أن (ع. بيريمي) يثق فيهم كثيرا وأن أغلبهم من أقربائه.
“الطامبو” و”اللصقة” لتغيير تاريخ الصلاحية
أطلعنا (س.م) أيضا، على بعض الطرق السرية، التي يتم من خلالها التلاعب في المنتوجات “المغربية”، والتي تستهدف بالأساس تاريخ الصلاحية، إذ قال، إن هناك طريقتين لا تدع للزبون أي مجال للشك في ما إذا كانت تلك السلع “بيريمي”، الأولى تهم بالأساس كل العلب البلاستيكية والزجاجية والمعدنية، يتم مسح تاريخ إنتاجها وانتهاء مدة صلاحيتها بمادة شبيهة بـ “الديلويت” (دوليو)، وهي مادة تباع بثمن بخس عند باعة العقاقير وتستعمل في الأساس لتخفيف الصبغات المركزة لما تحمله من تركيبات كيميائية. وأوضح (س.م)، الذي كان يتحدث معنا بصوت منخفض على مقربة من باب أحد مخازن (ع. بيريمي)، أنه لم يسبق له أن زار تلك المخازن المجهولة، لكن ما تسرب منها جعله يكوّن فكرة شاملة عما يقع بداخلها. وقال: “من بعد ما يتم مسح التواريخ جيدا، يستخدمون ختما خاصا (طامبو) يحمل تاريخ إنتاج وانتهاء مدة الصلاحية جديدا، وغالبا ما يحمل مدة سنة.. هي عملية مضنية لكن المستخدمين أصبحوا مثل الآلات كيطيروا فيها”. أما عن الطريقة الثانية، والأكثر غرابة، على حد نعت (س.م)، هي التي تستهدف علبا تسمى في قاموسهم بـ”وركي”، أي كل المنتوجات التي علبها من “كارطون الأليمينوني”. يتم نقع كل تلك السلع في “صهريج” من الماء والملح، قبل تنشيفها جيدا، لتأتي مرحلة “اللصقة”، وهي وضع شريط لاصق خاص جدا وغير معروف مصدره على تاريخ الإنتاج وانتهاء مدة الصلاحية، الذي يزيل بكل سهولة الحبر الأصلي، المستعمل سابقا في ختم التاريخ الأصلي المنتهي، ثم يتم حملها عبر “شاريوهات” لدى “أصاحب الطامبو” ليدوّنوا تاريخا جديدا عوض الأصلي.
ها فين كيمشي “بيريمي المغرب”
خلال وجودنا قرب مخازن (ع. بيريمي)، أسر لنا (حسن)، الملقب بـ”سكانيا”، أحد سائقي الشاحنات ذات الترقيم الجنوبي، أنه اعتاد، منذ حوالي 5 سنوات، على نقل هذه السلع إلى مدينة قلعة السراغنة، وإلى مدن أخرى في الجنوب المغربي، وأنه لم يسبق له أن حمل على متن شاحنته أي سلع أخرى مشكوك في أمرها، لكنه كشف أن هناك من يحمل تلك السلع (بيريمي المغرب) إلى الأسواق الأسبوعية في القرى والمداشر، خاصة في المناطق النائية بالمغرب. وقال: “الأسواق الأسبوعية قليل فاش كتكون فيها المراقبة.. أطنان من هاد المواد الغذائية كتمشي تمايا.. إضافة إلى أن أغلب سكان تلك القرى من ذوي الدخل المحدود، وأن مثل هذه السلع التي تحمل ماركات أجنبية، ذات أثمان رخيصة، هي الحل بالنسبة إليهم.. وقاضية غراض.. وحتى عندما ينبههم البعض إلى خطورتها، قد يجيبون: اللي ماقتلت تسمَّن”.
تباع في.. السجون والملاعب والشواطئ
بعض هذه المواد الغذائية التي تشكل خطرا حقيقيا على صحة الإنسان، تعرف مسالكا أخرى من حيث التوزيع.. شبكات منظمة ومختصة في تصريفها في أكثر من مكان “المهم كيلقاو ليها حل عا ماتبقاش عندهم” على حد تعبير عبد الخالق (ش)، الشاب العشريني الذي يمتهن بيع المواد الغذائية (بيرمي). إذ كشف لنا أنه دأب على بيع “الباسطات” والعصائر في الملاعب الكروية وفي الأماكن العامة، كما أنه أصبح يزود بعض أصدقائه من مدن ساحلية بهذه المنتجات لبيعها في الشواطئ. وأوضح قائلا: “من غير رمضان، الصيف قرّب.. يجب عليَّ أن أوفر الكمية المطلوبة والكافية لبيعها، لأنها تنفذ من المخازن مع اقتراب شهر يوليوز…”، مشيرا إلى أن هناك بعض الأسر تقتصر على أصحاب العربات المجرورة لاقتناء “قفة الزيارة” بالسجن، كتكون “كاملة مكمولة”، يحملونها لدعم تغذية أبنائهم من نزلاء السجون. وقال هذا العشريني إن ثمن القفة لا يتعدى 85 درهما، وقد تجد بها كل ما يحتاجه النزيل داخل زنزانته من مواد غذائية تكفيه لأكثر من شهر.
“كعوى”.. طون خارج الحدود
غير بعيد عن كراج علال، انتقلنا إلى حي درب غلف.. في هذا المكان، الذي اشتهر لدى المغاربة بـ”القرصنة الإلكترونية”، توجد، أيضا، محلات تزود المغرب بما يسمى “طون الهانيني”، أي علب سمك الأسقمري.. المعروفة بـ”سمك كعوى”، نسبة لأحد قدماء باعة هذه العلب في درب غلف.. الجيد منها يباع لدى المطاعم الشعبية والـ”كرارس”، أما البعض الآخر، الذي شارف على نهاية مدة الصلاحية أو انتهى بالفعل، فيتم نقله عبر شاحنات مجهزة بأنظمة تبريد إلى جنوب الصحراء. المعلومات تكاد تكون منعدمة حول الشبكات التي تتكفل بنقل هذه المنتوجات، نظرا لحساسية الموضوع أو للسرية التي تحيط به، إلا أن من التقتهم “آخر ساعة” كشفوا لنا أنها تمر عبر مدينة الداخلة، قبل وصولها إلى موريتانيا لتوزع في دول جنوب الصحراء. هناك يتم توزيعها لدى أشخاص آخرين “هوما عارفين مزيان آش يديرو بيها”…