البارحة وعدتُ القراء أن أكتبَ اليوم عن ياسين. لكن الأخبار والصور التي تصل على المواقع الاجتماعية منذ البارحة تشير إلى شيئين سلبيين لا يمكن السكوت عنهما بدءا. إذ يبدو من جهة أن رجال الأمن قد استعملوا القنابل المسيلة للدموع والعصي في تفريق تظاهرة سيدي عابد بالأمس، ومن جهة أخرى أن ظاهرة جديد مقلقة ظهرت مؤخرا وهي وجود مجموعات ملثمة بين المتظاهرين ترشق قوات الأمن بالحجارة ثم تختفي… وهي مؤشرات لا تدعو للارتياح…
أستمر الآن في ارتساماتي عن الحسيمة.
تواعدنا بعد اللقاء مع النشطاء، على أن نخرج إلى الشارع بعد الإفطار وصلاة التراويح. كان معنا البعض منهم: فتاة وشابان. أخبرونا أن حي سيدي عابد سيشهد وقفة جديدة في المساء. خرجنا يتقدمنا الناطق باسم المبادرة الدكتور محمد النشناش، العضو السابق هو الآخر في هيئة الإنصاف والمصالحة. أذكر يوم توجهت نحو الحسيمة صبيحة الزلزال في 2004، أنني هاتفته لأخبره بالكارثة. فأجابني للتو قائلا: نعم أعلم، وأخبرني أنه وصل قبل قليل إلى منطقة “آيت قمرة” في إطار انتشار أطر مؤسسة محمد الخامس للتضامن. كان هو الآخر من أول من التحقوا بالريف الجريح…
تقدمنا في شارع طارق بن زياد متجهين إلى حي سيدي عابد وهو حي شعبي يوجد على مرتفع شاهق صعب. وفي الطريق لاحظنا صفوف رجال الأمن المتعددة وحرصهم على تحري هويات المتوجهين إلى الحي المذكور. عند المنعطف أوقفنا أحد رجال الشرطة وتوجه إليَّ بالسؤال: هل أنت من سكان الحي؟ أجبت أنني من سكان الدارالبيضاء. فطلب مني الانصراف، غير أنني ألححت على المرور وقد تجمع أصحابي بالقرب مني. جاء رجل أمن ثان وأكد قرار صاحبه. فألححت من جديد على المرور وعندها أشار رجل الأمن الأول إلى أن علينا أن نطلب الإذن من المسئول مشيرا إلى سيارة رابضة على الجانب المقابل. وقبل أن أتوجه إلى صاحب القرار، جاء “الفرج” وأفسحوا لنا الطريق بإشارة من صاحب القرار لا ريب.
سرنا في طريق شبه فارغ من المارة وقطعنا مسافة لا بأس بها مشيا على الأقدام ولم تعد نقط التفتيش توقفنا، بل أخذ رجال الشرطة يفسحون لنا الطريق.
في لحظة من اللحظات تناهى إلى سمعنا هدير أصوات منبعث من مسافة قريبة. وفجأة ظهرت في أعلى الدرب جمهرة من الشباب اليافعين. كانوا يرددون الشعارات عن الريف والخيانة المرفوضة وما شابه. تقدمنا حتى كدنا نلامسهم وظللنا ننصت إلى شعاراتهم. وحين انتبهوا إلينا زادوا من حدة شعاراتهم.
لا أدري في تلك اللحظة لماذا حضرني رقم من الأرقام التي سبق للمندوبية السامية للتخطيط أن نشرتها قبل أسابيع: هذا الرقم يقول أن مليون و684 ألف مغربي ومغربية لم يجدوا ولن يجدوا فرصة لا لتعليم ولا لتربية ولا لتكوين ولا لتأهيل مهني ولا … لمستقبل. من المؤكد أن العديد من الشباب المحتج أمامنا في تلك اللحظة ينتمي إلى هذه الفئة المُضَحَّى بها… إنها تعرية لمحدودية بل لأزمة وربما لإفلاس النموذج التنموي القائم في بلادنا اليوم، النموذج الذي أنتج كل هذا “اللامستقبل”.
كان حريا بمسئولينا أن يقدروا كل المجهود الذي يبذله هؤلاء لكي يبقى احتجاجهم سلميا خلال شهور، عوض أن يواجهوهم بأساليب أخرى. كان عليهم أن يفردوا كل المساحات الممكنة للنقاش الصبور والمفاوضة المتأنية عوض المقاربة الإدارية المحضة التي لا يمكن أن تفي أبدا بالغرض. فلا يمكن لمشاكل من هذه الطبيعة وهذه الحدة أن تحل بالطريقة الإدارية الباردة.
وسط هذه الأفكار، كنت أتقدم نحو المحتجين. لم أبادر إلى البدء بالحديث مع أحد، فموضوع حضوري ضمن “المبادرة المدنية” في تلك اللحظة هو الوقوف على سلمية الاحتجاجات. أضف إلى ذلك أن أغلب الحاضرين في الوقفة كانوا إما شبابا أو يافعين قاصرين، رغم أنني لا أحب كثيرا كلمة القصور تلك.
فجأة تقدم مني شاب في مقتبل العمر، عليه علامات ذكاء وحضور بديهة. ربما لاحظ أنني أطيل النظر باهتمام إلى الواقفين المحتجين بأصواتهم الجهورية الممتلئة شبابا. كانت ملامحه تشي بالكثير من العزم والشعور بالمسؤولية. لم أفهم في البداية مراده. لكنه تقدم مني كمن يدري جيدا ما الذي يفعله وما الذي يريده ووسط هدير الأصوات انحنى جانبي وأخذ يردد حتى يعلو صوته على الصخب وهو يضغط على مخارج الحروف: “قل لهم يا سيدي أننا مغاربة. ولا نتسول مغربيتنا. نريد أن نعبر عنها بطريقتنا ولو عن طريق الغضب. لا تنس ذلك”.
في صباح اليوم الموالي ذهبنا جميعا – أعضاء المبادرة – إلى المحكمة الابتدائية لحضور جلسة تقديم المتظاهرين المعتقلين. وبعد حضورنا لجزء من الجلسة إذ كانت القاعة ممتلئة عن آخرها بالعائلات والأصدقاء، خرجنا إلى باب المحكمة. وقبل أن نتوجه من جديد إلى موعد آخر، وقف إلى جانبي شاب أعرف سحنته وقسماته جيدا، خرج للتو من باب البناية وقال: “أتمنى ألا تكون قد نسيتني”. تفرست في وجهه قليلا ثم أجبت:”طبعا لا أنساك يا ياسين. ناولني رقم هاتفك فقد أحتاج الحديث إليك مستقبلا…”
غدا: “صفاء بنت الريف، تحضرُ بكل أناقتها إلى الاجتماع لكي تبرز أنهم في الحركة الاحتجاجية سواء، يتجرؤون على نقد بعضهم البعض بدون استثناء…”