فيلم “طفح الكيل” .. عندما تقتل الخطابات الثورية السينما

جمال الخنوسي – مراكش

يقول الشاعر الكبير أحمد مطر في قصيدته « ارفعوا أقلامكم » :

طفح الكيل.. وقد آن لكم أن تسمعوا قولاً ثقيلا

نحن لا نجهل من أنتم.. غسلناكم جميعاً

وعصرناكم.. وجفّفنا الغسيلا

(…)

ارحلوا

أم تحسبون الله لم يخلق لنا عنكم بديلا؟

أي إعجاز لديكم؟

هل من الصعب على أي امرئ.. أن يلبس العار

وأن يصبح للغرب عميلا

أي إنجاز لديكم؟

هل من الصعب على القرد إذا ملك المدفع.. أن يقتل فيلا؟

ما افتخار اللص بالسلب

وما ميزة من يلبد بالدرب.. ليغتال القتيلا؟

قصيدة قوية للتنديد بالوضع العربي المزري. قصيدة يأخذ منها المخرج محسن البصري عنوانا لفيلمه الثاني، (بعد فيلمه الأول « المغضوب عليهم » 2011)، “طفح الكيل” الذي يشارك في المسابقة الرسمية للدورة 17 من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، وكأنه يخبرنا منذ البداية : هذا فيلم ثوري.. هذه سينما ملتزمة.

يبدأ الفيلم بمشهد شاب على حافة قنطرة بالطريق السيار. يمر رجل بعربة محملة بالخردة فيقترب من الشاب الذي يحاول الانتحار، وبدل منعه من تنفيذ مخططه، يستولي الرجل على سجائرة وملابسه .. وكأنه طائر الموت يقتات من جيفة.

سينجو الشاب من الموت بأعجوبة وينقل الى مستشفى عمومي حيث تتقاطع حكايات الشخوص. ادريس وزهرة يُخضعان ابنهما للفحص بعد أن نغص عليه الصداع حياته الطفولية. وطارق، الطبيب المنهك بفعل إخلاصه في عمله، والذي ترك وراءه مسارا واعدا في كندا وفضل مساعدة المهمشين والفقراء.

هذا المستشفى الذي يعج بالحالات الاجتماعية المعقدة صورة لوطن أرحب حيث يعيش المحرومون وضعا لا يطاق وانفجارا محذقا.

“طفح الكيل” إذن صرخة للمهمشين والضعاف داخل مجتمع “متوحش” حيث تسود النفعية والانانية والفساد. لكنه خطاب سياسي اجتماعي مباشر تحول الى نوع من الثرثرة التي قتلت التعبير السينمائي لصالح سوداوية بلا عمق.

فيلم اجتماعي مشتت بالقصص ومشتت بالتنديد بكل شيء، وهنا تكمن احدى نواقص الفيلم: فالمخرج/السيناريست الذي يسعى لقول كل شيء لا يقول أي شيء في نهاية المطاف. وبدل سرد قصة، اصبح الشخوص “محاضرون” حول القضايا المجتمعية. إنه كتالوغ اسود لكل امراض المجتمع ولكل ما تهواه صناديق الدعم الاجنبية أيضا.

وكان تأرجح الفيلم بين “البورليسك” والواقعية الاجتماعية مفسدا للسلاسة، حيث تحول الى جرعة زائدة من البؤس ونظرة كابوسية وأورويلية (نسبة إلى جورج أورويل) للواقع المغربي.

واذا كان الفيلم يسعى الى محاكاة نوعية الافلام الاجتماعية السياسية الملتزمة التي يعد المخرج البريطاني كين لوتش، الذي فاز بجوائز عالمية، أحد روادها، فإن المخرج أفسد توابل الخلطة من خلال المباشرة في الخطاب، وتعدد القضايا وتشعبها حتى غدى الفيلم اقرب الى الروبورتاج التلفزيوني منه الى العمل السينمائي.

مع ذلك كان أداء الممثلين فاطمة الزهراء بناصر، وسعيد باي مبهرا وحملا على مدى 85 دقيقة ثقل الفيلم بأداء صادق ومتوازن، وكانت غالية بن زاوية مميزة، غير انه كلما تقدم الفيلم إلا وأصابه الملل والوهن قبل أن يطلق المخرج عليه رصاصة الرحمة النهائية.

في المشهد الاخير انتقلنا من السوداوية المجانية الى اللاسينما، وتحول السرد الحكائي الى كوريغرافيا بلا منطق. وسيؤكد البصري في الجينيريك الختامي “أورويلية” فيلمه من خلال أغنية لفرقة “نردستان” التي تحمل بدورها خطابا ثوريا تحت عنوان “1984”، أشهر رواية للكاتب البريطاني جورج أورويل.

لكن للأسف، الملابس لا تصنع الراهب، إذ لا يكفي التمسح في الكبار لتكون كبيرا، كما أن تَبَنِي المرجعيات العالمية لا يصنع فيلما خلاقا.

Total
0
Shares
المنشورات ذات الصلة