بقدر ما كان درويش ثائرا، صاخبا، قويا، مجددا في شعره، بقدر ما كان هادئا، متألقا، هشا ومرهفا، بعمق خصب، في إنسانيته.
محمود، الذي حرص محبوه على أن يبقى حضوره طاغيا ومهيمنا كأيقونة تستعصي على النسيان، كان كبيرا وهو يناضل، مقنعا وهو يحاجج، مبدعا حد التخمة وهو ينظم القصيد، بل حتى في موته، كان مدهشا.
في لقاء جمع فيه هذا الشاعر الكبير بين شرق وغرب الوطن العربي، في جلسة وفاء نظمت، مساء أمس السبت، ضمن فعاليات الدورة 25 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، عمد الحضور الى استرجاع درويش الإنسان، في مناكفاته ومشاكساته لأصدقائه وأحبائه، في طقوسه، في تواضعه الكبير، وحنوه على من دونه سنا ونظما من شعراء شباب.
فالمقام لم يكن يتسع لكليهما (الشاعر والإنسان)، فالكلام عنهما معا ما كان إلا ليزيد محبي درويش بالمغرب تعطشا، وحنينا، فتوارى الشاعر، لكون شعر درويش قتل بحثا ودراسة، ليبقى الإنسان، ويطل من شرفته، ومن خلف نظارته، فيكشف من خلال مشاهد من حياته، بالمنفى وحين عودته إلى رام الله ليشتم رائحة الوطن، عن مناطق ظل لم يكن يعرفها إلا من عاش قريبا منه.
فمحمود، في شهادة الروائي الفلسطيني يحيى يخلف، الشاهد على تفاصيل كثيرة في حياة شاعر فلسطين، ” حاضر فينا، ومقيم في وجداننا، وغني عن القول إن إبداعه قهر الموت والغياب(…) قامة ثقافية كبيرة، جعلت من الثقافة قوة ناعمة، صارت أمضى من السلاح”.
يخلف يحفظ لمحمود درويش أنه شكل القلعة والحصن المنيع ضد أي تطبيع ثقافي بعد اتفاق أوسلو، الذي كان من معارضيه، وعودة السلطة الفلسطينية إلى رام الله، حفاظا على الهوية الفلسطينية الوطنية من أي اختراق قد يفقدها ملمحها الأصيل، معتبرا أن الموروث الفلسطيني استطاع أن يوحد بين فلسطينيي الداخل وفلسطينيي الشتات، ويخلق تلك اللحمة التي شكلت المنطلق للثورة الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والكرامة.
بحسب روائي فلسطين الكبير، فهناك جانب من حياة هذا الشاعر “خص بها وحده ولم يلتفت إليها النقاد والباحثون، وهذه الميزة يمكن أن نسميها قوة الثقافة في السياسة، فمحمود درويش لم ينخرط تماما في العمل السياسي المباشر، لكنه كمثقف كان سياسيا بامتياز”.
ويستذكر، بالمناسبة، أن ما حفظه التاريخ لأبي عمار من قوله في خطابه الشهير داخل الأمم المتحدة في 1974 ” أحمل لكم سلاح الثائر في يد، وغصن الزيتون في اليد الأخرى فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”، فيه بصمة درويش، إذ كان أحد أعضاء الفريق الذي أعد لذهاب ياسر عرفات، وكان هو واضع اللمسات الأخيرة على هذا الخطاب التاريخي.
كما أن محمود درويش، يضيف يخلف، هو الذي كتب نص بيان الاستقلال، نص قيام دولة فلسطين الذي ألقاه ياسر عرفات في المجلس الوطني عام 1988 في دورة المجلس في الجزائر، “وهو النص الذي لم يتسم بالبلاغة فقط، وإنما بمضمون سياسي وحضاري وإنساني، عبر بشكل لا لبس فيه عن قوة الثقافة في السياسة”.
وهو ينظم، وهو يمارس السياسة من خلال الثقافة، وهو يعبر إلى العالم بقصائد ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، كانت لدرويش طقوسه الصارمة، فقد كان حريصا على أن ينام ثمان ساعات كاملة غير ناقصة، وضبط المنبه دوما على الساعة الحادية عشرة مساء، وفي كل صباح يرتدي ثيابه ويبدأ العمل أو الكتابة كأنه في دوام رسمي.
فيرصد التفاصيل الدقيقة في أشعاره، يمحصها، يعيد قراءتها، يصلح ما تراءى له أنه قد يخل بالقصيدة، وكأنه شاعر من شعراء الحوليات، ينظم القصيدة ويتركها ليعود إليها بعد حين، بشهادة صديقه الروائي، فإما أن تنشر أو تمزق، فقد “كان أول ناقد لشعره”.
في درويش اجتمع ما تفرق في غيره، وشكل تجربة إنسانية وإبداعية تخطت الألم والوجع الفلسطيني اليومي، لتخترق الحصار، وتجعل من القضية الفلسطينية حاضرة بقوة عبر العالم، فأصدقاؤه كانوا كثرا، ومن خلاله عبروا إلى الحق الفلسطيني، فهو لم يكن صوت فلسطين وحدها، بل كان صوت الحق والعدالة الإنسانية.
وفي هذا، يقول الشاعر المغربي حسن نجمي، الذي جمعته تجربة إنسانية عميقة بدرويش منذ أول لقاء بينهما سنة 1983، “كان أديبا عالميا بأفق كوني، ولعب دورا مهما في ترسيخ الوعي الوطني بالقضية الفلسطينية وتجذرها، خاصة في الوجدان المغربي”.
فلدرويش محبون كثر بالمغرب، وحضور طاغ في كل منتدياتهم الإبداعية وأمسياتهم، حتى إنه في زياراته للمغرب، كان مضيفوه يجدون صعوبة في برمجة لقاءاته مع جمهوره الكبير، بشهادة نجمي.
وبالنسبة إليه، هو من عزف عن الكتابة عن درويش منذ وفاته قبل عشر سنوات (غشت 2008) غير مصدق بعد “أن درويش هو اليوم تحت التراب”، فقد استطاع محمود أن يطور تجربة شعرية إنسانية متفردة عن غيرها من التجارب الشعرية العالمية، وبلور لغة خاصة به، فقد كان كثير الاشتغال على اللغة، ونجح في أن ينحت مصطلحات جديدة ويمنح أخرى حياة متجددة.
فهو، لم يكن أبدا متعاليا، بل، شديد الإنصات إلى غيره من الشعراء، قريبا من الأصوات الشعرية الشابة، دائم البحث عن التجديد، برأي نجمي، ” لم يتصرف، يوما، كشاعر مكتمل”، بل كان يردد دائما ” أنصت للأصوات الشابة لكي لا أصاب بالشيخوخة الشعرية”.
درويش، الذي “استلهمناه في أحاديثنا، في أشعارنا، في رسائلنا، وفي لقاءاتنا”، يقول نجمي، كان “معلما كبيرا، وكره أن يمدح فقط لكونه شاعرا فلسطينيا، عشق القصيدة فمنحها من روحه، وأسبغ عليها من ضلاله”.
هي الضلال، التي تجاوزت القصيدة، لتغطي فلسطين من النهر إلى البحر، كما كان يعشقها درويش، وهو إن عاد يوما إلى رام الله، فليس إلا ليكون قريبا من قريته داخل أراضي 48، كان يتطلع إلى أبعد من حدود اتفاق أوسلو.
فهدوؤه الظاهري، كقديس في محرابه، كان يخفي زلزالا سكن درويش، وجعله يبحث عن الوطن في كل حرف من أحرف اللغة، وفي كل شق من المخيم، وبين متاهات المنافي، لم يكن ليرضى بالوطن مقسما أو مجزء، بل كان مؤمنا أن من حق الفلسطيني أن يعود إلى كامل أرضه، وإن على مراحل.
كان، كما قال يحيى يخلف، “غزالا يسكنه زلزال”.