يرى كثير من الأجانب وكذلك بعض الليبراليين السعوديين أن النهج الديني الصارم في المملكة، هو السبب الأساسي في الخطر الجهادي الدولي، الذي ألهب الوضع في الشرق الأوسط، منذ سنوات، وكانت آخر ضرباته في باريس الأسبوع الماضي.
ورغم أن الرياض عمدت إلى تضييق الخناق على الجهاديين في الداخل، فزجت بالآلاف في السجون، ومنعت المئات من السفر للقتال في الخارج، وقطعت خطوط تمويل المتطرفين، فقد أثار نهجها الديني معضلة.
فهي تهاجم عقيدة المتطرفين الذين يعلنون الجهاد على من يعتبرونهم كفارا أو ملحدين، وهي، في الوقت نفسه، تحالف المؤسسة الدينية التي تدعو لعدم التسامح مع مثل هذه الفئات نفسها وإن لم تكن تدعو للعنف.
ويعتبر المذهب الوهابي، وهو المذهب الديني الرسمي في المملكة، أن المذهب الشيعي انحراف عن صحيح الدين، ويثني على الجهاد، ويحض على كراهية الكفار.
ويدير رجال المؤسسة الدينية النظام القضائي في المملكة، وميزانية لنشر نفوذهم في الخارج.
وقال أحد كبار رجال الدين السعودي لرويترز، في العام الماضي، “يجب أن يكون المسلمون منصفين لغير المسلمين. ولهم أن يتعاملوا معهم وعليهم ألا يعتدوا عليهم. لكن هذا لا يعني ألا يكرهونهم ويتجنبونهم.”
وبالنسبة للحكومة فإن التركيز على هذا التفريق بين قبول الكراهية والتحريض على العنف سمح لها بالاحتفاظ بدعم رجال المذهب الوهابي، والمجتمع السعودي المحافظ بشدة، وفي الوقت نفسه تنفيذ عملية أمنية كبرى تستهدف المتطرفين.
وتجيء المذبحة التي شهدتها باريس، يوم الجمعة، على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية، في أعقاب سلسلة من التفجيرات، والهجمات بالأسلحة النارية، من جانب أنصار الجماعة نفسها في السعودية، خلال العام الأخير سقط فيها العشرات، وأغلبهم من الأقلية الشيعية في المملكة.
وتدافع الحكومة عن سجلها في التصدي للتشدد الإسلامي، وتشير إلى اعتقال الآلاف من المشتبه في تطرفهم، وكذلك تبادل معلومات الاستخبارات مع الحلفاء، ومنع رجال الدين الذين يشيدون بهجمات المتطرفين من ممارسة نشاطهم.
وفي مقابلة، خلال الصيف، رفض اللواء منصور التركي، المتحدث باسم وزارة الداخلية، فكرة أن الوهابية نفسها تمثل مشكلة، وشبه 2144 سعوديا سافروا إلى سوريا بما يقدر بنحو 5500 مسلم أوروبي فعلوا الشيء نفسه.
وأضاف أن رجال الدين والدعاة الذين يحثون المسلمين، بمن فيهم السعوديون على السفر إلى سوريا والعراق، من أجل المشاركة في القتال أو لشن هجمات في مناطق أخرى، يعيشون هم أنفسهم في مناطق خاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية لا في المملكة نفسها.
* رد فعل المتطرفين
وقد ندد مفتي المملكة، أرفع رجال الدين في المذهب الوهابي، ومجلس كبار العلماء، أكبر مؤسسة دينية للمذهب، بهجمات باريس، وهما يستنكران منذ سنوات المتطرفين ويصفانهم بأنهم من الضالين والكفار.
ولكن رجال الدين السعوديين يذمون الشيعة صراحة، ويسمونهم “الرافضة”، وهو لفظ شائع، متداول بين المتطرفين، من أصحاب المذهب السني، في الصراع الطائفي، الذي نكب به عدد من دول الشرق الأوسط وفي كثير من الأحيان يرفضون اعتبار الشيعة مسلمين.
ولا يختلف تفسيرهم للجهاد عن تفسير الجماعات المتشددة، سوى في أنهم يرون ضرورة الحصول على موافقة العاهل السعودي، ومن يمثل المؤسسة الدينية الرسمية.
وبالنسبة للغرباء والليبراليين السعوديين، ممن ينتقدون أسرة آل سعود الحاكمة، يبدو الفرق غاية في الدقة بين هذين التفسيرين.
غير أن هذا التمييز يصب مباشرة في سياق السياسة الداخلية السعودية التي تعتمد فيها الأسرة الحاكمة على المؤسسة الوهابية لدعم شرعيتها وكثيرا ما تبدي مخاوفها من انتفاضة قد يشنها المتطرفون ضد حكمها.
ومن المؤكد أن التاريخ يبين أن أكبر التهديدات لاستقرار المملكة أكبر، دول العالم تصديرا للنفط، جاءت من ردود فعل المحافظين تجاه الليبرالية.
فقد ثار جيش الإخوان القبلي لمؤسس المملكة ابن سعود عليه بسبب معاهداته مع غير المسلمين. واغتيل الملك فيصل عام 1975 انتقاما لمقتل أمير عام 1966 خلال أعمال شغب احتجاجا على دخول التلفزيون المملكة.
وفي 1979 اجتاحت مجموعة من المتشددين الإسلاميين بدافع من مشاعر الغضب تجاه واشنطن الحرم المكي في عملية حصار دام. وانتشرت احتجاجات إسلامية واسعة في التسعينات. وفي العقد الماضي شن تنظيم القاعدة هجمات مميتة.
وساهمت هذه الهجمات والتفجيرات التي سقط فيها مئات القتلى في دفع أسرة آل سعود للتصدي للتطرف الصريح بين رجال الدين وتطبيق إصلاحات تهدف إلى تشجيع التسامح وتوظيف المزيد من الشبان السعوديين.
ومن هذه الإصلاحات برنامج للبعثات الدراسية سافر من خلاله مئات الألوف من السعوديين من الجنسين للدراسة في الخارج وحملة كبرى لتوظيف المزيد من السعوديات وكذلك إصلاحات هادئة للنظام القضائي والتعليم ومنع مئات الدعاة من ممارسة الدعوة.
وأدت تلك الإصلاحات إلى تصاعد الاستياء الوهابي من صاحبها العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله. وعلاقة الملك سلمان برجال الدين تسير على نحو أفضل، رغم أنه لم يتخذ، بعد تسعة أشهر من توليه الحكم، أي خطوة كبرى نحو الرجوع عن هذه الإصلاحات.
* نفوذ عالمي
ويرد منتقدو الأسرة الحاكمة بأن المؤسسة الدينية، التي تمولها الدولة، تذعن أكثر مما يبدو لرغبات الأسرة الحاكمة، ويتهمون الأسرة بأنها تلوح بخطر التشدد الديني، لتجنب القيام بإصلاحات قد تعرض سلطتها للخطر في نهاية الأمر.
ويضيف هؤلاء أن الامتيازات السابقة التي صدرت في مواجهة مخاوف من رد فعل المحافظين منحت رجال الدين الوهابيين نفوذا عزز رسالة عدم التسامح.
وأحد المشاكل التي تواجهها أسرة آل سعود في محاولة التخفيف من صرامة الوهابية، هو أن هذا المذهب نشأ صراحة للقضاء، على ما يعتبره معتقدات إلحادية خاطئة. ومنها أيضا شروط اتفاق يرجع للقرن الثامن عشر بين الأمراء ورجال الدين يقسم السلطة بين الطرفين.
ويمثل تحدي أي من هذين المبدأين ضربة لمعتقدات جوهرية وللعقد الاجتماعي الذي يقوم عليه المجتمع السعودي.
ومع ذلك فقد حدثت بعض التغييرات. فبعد أن هزم ابن سعود الإخوان قام بترقية رجال الدين الذين أقروا تفسيرا أكثر شمولية للوهابية، اعترفوا فيه بأن السنة من أصحاب التوجهات الليبرالية مسلمون، وقبلوا فكرة التعامل مع كفار.
وعلى مر العقود لانت مواقف المؤسسة الدينية الرسمية بدرجة أكبر، على مضض، وأصبح دعاة ورجال دين، ممن لا يجدون غضاضة في التواصل مع الغرب، ومع الأفكار الحديثة، ينضوون تحت لواء الوهابية الآن.
ورغم أن السعودية تمول دعاة ومساجد ومعاهد دينية في أماكن متفرقة من العالم ورغم تنامي المذهب السلفي بين المسلمين على مستوى العالم فقد أصبح نفوذ السعودية في هذه الحركة مخففا.
ولا تزال الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة من أهم مراكز تعليم المذهب السلفي للطلبة، من مختلف أنحاء العالم، لكن خريجيها لا يتمتعون بأي نفوذ أكبر من خريجي مثل هذه المؤسسات في دول أخرى.
وقالت ستيفاني لاكروا، التي نشرت لها كتب عن السلفية والإسلام في السعودية، “أصبح المشهد السلفي مفتتا ومتباينا في مختلف أنحاء العالم، حتى أنه لم تعد للسعوديين سيطرة عليه. وعندما يتجه الناس لدراسة السلفية، لا يذهبون إلى هناك، وما يدرسونه هو سلفية لا سيطرة للسعوديين عليها.”
وفي ما بين المتطرفين لم يعد النفوذ الديني السعودي واضحا كما كان من قبل. ففي كثير من الأحيان يلجأ الجهاديون إلى نصوص كتبها علماء راحلون من علماء الوهابية، وكثيرا ما يتبنون أسلوبا سعوديا في الخطابة في خطبهم الدينية، لكنهم يسخرون من رجال الدين المعاصرين في المملكة، ويصفونهم بأنهم ألعوبة في أيدي نظام فاسد مؤيد للغرب.