ليس عنف الشرطة الاختلال الوحيد الذي تعاني منه الولايات المتحدة، بل هناك مشاكل أخرى تتفاقم في هذا البلد الغني. هل تمثل أمريكا نموذجا للرفاه الاجتماعي أم أن البلد الذي يرسل عشرات المليارات من المساعدات للخارج يعاني بدوره؟
عُرفت الولايات المتحدة بعبارة “الحلم الأمريكي” التي تعني أن كل شخص في البلاد يمكنه أن ينجح ويحقق أحلامه الوظيفية ويعيش حياة الرفاه بغض النظر عن عرقه أو أصوله أو دينه. لكن المشاهد القادمة من بلاد “تمثال الحرية”، لا تعكس الصورة البراقة التي جعلت الولايات المتحدة أول بلد في العالم يستقطب المهاجرين، إذ عرّى مقتل جورج فلويد عن عيوب كثيرة في النظام الاجتماعي الأمريكي، وأكد أن الدولة التي تنتقد دوما الآخرين في مجال حقوق الإنسان، تعاني من عدة اختلالات اجتماعية ليس عنف الشرطة الذي أودى بحياة فلويد سوى واحداً من أوجهها.
بعد مرور حوالي 57 عاما على الخطاب الشهير لمارتن لوثر كينغ الإبن، عندما قال “لديّ حلم”، لا يظهر أن كل ما هدفت إليه حركة الحقوق المدنية من إنصاف للأمريكيين من أصل إفريقي، ووقف التمييز المنهجي بحقهم قد تحقق، إذ يقول الاقتصادي الأمريكي الحائز على نوبل، جوزيف ستيغلز، في مقال له، إن هذه الفئة المجتمعية لا تزال تعاني من التفاوت في التعليم والعمل، بل استفحل التفاوت أكثر في الثروة والدخل، مشيرا إلى صعوبة “اجتثاث العنصرية المؤسسية العميقة الجذور”، وإن تأثير “فجوة الانقسام الاقتصادية مدمر لمن لم يحصلوا على تعليم جامعي”، الذين يمثل الأمريكيون السود ثلاثة أرباعهم.
ويؤكد المحلّل السياسي المقيم في واشنطن، عاطف عبد الجواد، في حديث لـ DW عربية، أن العنصرية لا تزال موجودة، بل “ازدادت منذ وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة، فهو يستعدي المهاجرين والأجانب”. ويتابع المحلّل أن الكثير من المتتبعين كانوا يعتقدون أن مجموعات التطرف البيضاء انتهت، لكن “مجيئ ترامب أتاح لها العودة إلى الشوارع والخروج في مسيرات علنية”.
دعم اجتماعي ضعيف
سبق لدراسة أمريكية نشرت خلاصاتها في بحث لمؤسسة “بروكنغز”، أن أكدت أن الملايين من الأمريكيين يعيشون تحت دولارين فقط، وهو خط الفقر العالمي المطبق في دول نامية.
ومقارنة مع كل دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2017، حلّت الولايات المتحدة في آخر القائمة كثاني دولة تملك معدلات فقر مرتفعة (الأخيرة إسرائيل)، بنسبة 17.8 من مجموع السكان، أي أنها أسوأ من دول تتلقى مساعدات أمريكية كالمكسيك وتشيلي، وفق إحصائيات “ستاتيكا” التي تشير إلى وجود 38 مليونا في أمريكا تحت خط الفقر، وأن قرابة 21 بالمائة من الأمريكيات من أصول إفريقية يعشن في الفقر، أكثر من أيّ عرق آخر.
وجاءت كورونا لترفع من معاناة الأمريكيين السود، إذ أدى هذا الوباء إلى وفيات أكثر في صفوفهم، والمثال من ولاية إيلينوي التي لا يمثل فيها السود سوى 14بالمائة لكنهم يمثلون 42 بالمائة من الوفيات. وتتحدث عدة تقارير عن أن الأحياء الفقيرة حيث يقيم الأمريكيون من أصل أفريقي تملك مستشفيات أقل جودة ولديها عدد أقل من الأطباء.
” فشلت الولايات المتحدة في توفير البرامج والسياسات التي تحدّ أو تقلّل من الفقر”، تقول منظمة “كونفرونتين بوفرتي” الأمريكية، متابعة على موقعها أنه مقارنة مع دول صناعية غربية، توّفر أمريكا برامج قليلة لمساعدة الفئات الهشة، ولا تخصّص إلا نسبة قليلة للغاية من ناتجها المحلي الإجمالي للرعاية الاجتماعية.
وتشير المنظمة إلى عدم وجود مساعدات مالية للأسر ذات الأطفال (هناك خصم ضريبي)، وكذلك إلى مشاكل الرعاية الصحية، إذ لا يتوفر كل السكان على نظام صحي. كما يشير تقرير لمؤسسة “غالوب” أن ربع الأمريكيين صرّحوا أنهم أو أحد أفراد أسرهم تخلوا عن علاج ضروري للغاية بسبب ارتفاع التكاليف.
سجون مكتظة
من أكبر ثغرات نظام العدالة الأمريكي، ما يخصّ السجون، إذ يصل عدد السجناء في البلاد إلى حوالي 2.3 مليون حسب أرقام 2020، فيما تشير إحصائية من عام 2017 أن نسبة ملء السجون بلغت 99.8 بالمائة. وسبق للمرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون أن صرّحت عام 2015 أنه بينما يعيش أقل من 5 بالمئة من سكان العالم في الولايات المتحدة، تملك البلاد تقريبا ربع سجناء العالم (احتسبت الواشنطن بوست النسبة وهي 22 في المئة).
و يشير تقرير الجريدة ذاتها أن ارتفاع أرقام السجناء لا يعود لارتفاع الجريمة، بل لتغيير القوانين والسياسات الخاصة بالجريمة. وهو ما يؤكده تقرير لمبادرة “بريزن بوليسي”، إذ يشير إلى أن 74 بالمائة من المحكومين بالسجن النافذ كل عام لم تتم إدانتهم بعد. بعضهم يستطيع الخروج بكفالة، والبعض الآخر لا يملك المال لدفعها ما يجعله يبقى وراء القضبان. ومن المفارقات الأمريكية أن 13 ولاية لم تحدد السن الأدنى لمحاكمة القُصر، ما أدى إلى محاكمة أطفال بعمر 8 سنوات في عدة ولايات، حسب مبادرة “إكوال جستس”.
أسباب الإخفاق
يرى بعض الباحثين أن إخفاق الحكومات الأمريكية المتعاقبة في معالجة الاختلالات الاجتماعية يعود إلى طريقة تشكيل الدولة التي ركزت على تقليل التدخل المركزي في المجال الاجتماعي. ويعود كذلك إلى طبيعة البلاد المكونة من 50 ولاية، إذ يقول عاطف عبد الجواد، إن “كل ولاية تعمل كأنها جمهورية قائمة بذاتها، ما يجعل الحالة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية تختلف من ولاية لأخرى، لكن المسؤولية الفيدرالية مهمة في تقديم الدعم المالي للولايات الفقيرة، وفي وضع تشريعات مركزية لا يمكن للولايات تجاوزها، وهو ما يعتريه الكثير من التقصير”.
ويتابع عبد الجواد أن هذه الاختلالات تعود كذلك إلى الانقسام الحزبي الشديد بين الجمهوريين والديمقراطيين على الصعيدين المحلّي والفيدرالي، إذ يدافع الطرف الأول بشدة عن حقوق الأثرياء، في حين يتوجه الثاني إلى الطبقات الفقيرة.
ومن أكبر الأمثلة على هذه الانقسامات، ما قام به دونالد ترامب من إلغاء لقانون الرعاية الصادر في عهد باراك أوباما، وهو قانون كان يوّفر الرعاية الصحية بأسعار معقولة على الطريقة الأوروبية. ولم يتوقف ترامب عند هذا الحد، بل أعلن بداية 2020 أنه سيخفض ميزانيات برامج الرفاه الاجتماعي كبرنامج “ميديكير” الموجه لكبار السن، إن فاز في ولاية جديدة، لأجل خفض عجز الميزانية الفيدرالية، ووفقا لموقع ABCnews، اقترح ترامب تقليصًا بحجم 1.6 تريليون دولار على الرعاية الاجتماعية مستقبلا، بينها 451 مليار على “ميديكير”.
فهل ستدفع الاحتجاجات الكبيرة على مقتل جورج فلويد، والتي لم تعد تطالب فقط بالعدالة للقتيل، بل بإصلاحات واسعة، بترامب إلى التراجع عن خططه والبحث في الأشهر القليلة المتبقية له عن حلول للتفاوت الاجتماعي المتفاقم، خصوصا أن حظوظه للانتخاب مجددا تسير في اتجاه صعب؟