تخرج بضع كلمات بالعبرية من فم الفلسطيني عبد الرحمن بينما يتحادث مع زوار مشتله للزهور… قبل خمسة عشر عاما، كان عبد الرحمن يعمل مزارعا في مستوطنة نافيه دكاليم الإسرائيلية في خان يونس في جنوب قطاع غزة.
وكانت نافيه دكاليم أكبر مستوطنات غوش قطيف السابقة، وإحدى 21 مستوطنة كانت تحتل 8 في المئة تقريبا من مساحة القطاع البالغة 360 كيلومترا مربعا، قبل أن يخليها الجيش الإسرائيلي تماما في 22 غشت 2005 ضمن خطة الانسحاب من القطاع بعد 38 سنة من الاحتلال.
بعد أشهر من هذا الانسحاب، حققت حركة حماس فوزا كاسحا في الانتخابات التشريعية، ثم تفردت بالسيطرة على على قطاع غزة في صيف 2007 بعد مواجهات دموية مع حركة فتح. وعلى الأثر، فرضت إسرائيل حصارا مشددا بريا وبحريا وجويا على القطاع الذي يسكنه مليونا شخص نحو ثلثيهم لاجئون.
لكن عددا من قطاع سكان غزة لم ينسوا اللغة العبرية التي تعلموها خلال سنوات الاحتلال، على الرغم من عدم دخول إسرائيليين الى القطاع منذ ذلك الحين.
وأنشأت وزارة الزراعة التابعة لحماس مشتل الزهور الذي يعمل فيه عبد الرحمن، وفيه عشرات الأنواع من الزهور المميزة وبعضها نادرة تنتج في بيوت بلاستيكية بمنطقة المواصي المعروفة بخصوبة أراضيها ونقاء مياهها.
بينما يرتب عبد الرحمن (58 عاما) ذو اللحية البيضاء، أشتال زهور في علب بلاستيكية صغيرة، يلتفت فجأة نحو أحد الزوّار الذي يمسك بشتلة، قائلا له بالعبرية “تعزوفيت”، بمعنى “اتركها”.
ثم يبتسم ويقول “نستخدم أحيانا كلمات بالعبرية في الحياة اليومية، أسماء مبيدات وأشتال لا زلنا نحفظها بالعبرية”. ويروي أنه أتقن العبرية عندما كان يعمل في مشتل زراعي في إسرائيل ثم في مشتل داخل المستوطنة السابقة.
ويتذكر أنه كان، مثل آلاف غيره من المزارعين والعمال الغزيين، يخضع لإجراءات تفتيش دقيقة على الحواجز العسكرية التي كان يقيمها الجيش الإسرائيلي لدى دخوله المستوطنة.
كانت المستوطنات أشبه بمدن صغيرة معزولة داخل القطاع محاطة بأسوار إسمنتية ومعدنية مرتفعة تعلوها أسلاك شائكة، مع عشرات المواقع العسكرية وأبراج المراقبة.
وترك الجيش الإسرائيلي مناطق المستوطنات السابقة مدمرة تقريبا.
وشهدت السنوات ال15 الماضية حروبا بين إسرائيل وحركة حماس وتبادل قصف وعمليات عسكرية وتوترات. ومنذ أكثر من أسبوع، تشهد حدود القطاع تبادل إطلاق نار بين الطرفين، وشن الجيش سلسلة غارات جوية استهدفت مواقع لحماس، ردا على إطلاق بالونات محملة بمواد حارقة ومتفجرة أدت الى إحراق مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الإسرائيلية.
– دروس بالعبرية –
غرب خان يونس، أقامت حماس مدينة سكنية على الطراز المعماري الحديث تضم ألف شقة سكنية، ومدرستين، ومسجدا، وسوقا بتمويل قطري، وخصصتها لسكن ذوي الدخل المحدود.
تحيط بالمدينة بساتين مزروعة بأشجار الزيتون والبرتقال والنخيل.
ويتذكر المزارع اسماعيل الأسطل (44 عاما) الذي عمل في المستوطنات السابقة ليلة مغادرة المستوطنين منطقته. “كنت نائما ليلة الانسحاب في البيت. فجأة أيقظني شقيقي وقال لي” +تحررنا+. شاهدت آخر دبابة تغادر، بكيت كثيرا من الفرح”.
ويضيف الرجل أنه كان محظوظا بحصوله مع إخوته السبعة على قطعة أرض مساحتها 15 دونما بمنطقة المواصي. “حرمنا من أرضنا التي نملكها لثمانية وثلاثين عاما. كنا هنا كالسجناء، بعد رحيلهم، عادت الحياة”.
وبقي له من الاحتلال إرث اللغة. إذ يجيد الأسطل العبرية التي يحاول نقلها إلى ابنه محمد.
ويقول محمد (21 عاما) إنه يسمع والده أحيانا يتلّفظ بكلمات عبرية مع أصدقائه أو الأقارب، وهو أمر غير مستهجن في قطاع غزة حيث يتقن كثيرون اللغة.
ويضيف الشاب “أحب تعلم العبرية. ذهبت إلى معهد لغات بخان يونس لتعلمها، لكنها صعبة، لو كان هناك احتكاك مع اليهود، يمكن تعلمها بسرعة”.
ثم يتابع بشيء من الحزن “غزة لم تتحرر. إسرائيل تتحكم في كل شيء، حصار وإغلاق، فقر وبؤس وبطالة”.
وتزيد نسبة البطالة في قطاع غزة عن 50 في المئة، نحو 70 في المئة منهم من الشباب. ويعاني أكثر من خمسين بالمئة من سكان القطاع من الفقر، بحسب البنك الدولي.
ولا يخفي عبد الرحمن أنه فقد بعد الانسحاب عملا بأجر جيد.
ويوضح أن أجر المزارع يوميا في إسرائيل أضعاف ما يتقاضاه مزارع يعمل في غزة، مشيرا الى أن أجور المزارعين في القطاع متدنية “تتراوح بين 20 و80 شيكلا يوميا (الدولار يساوي 3,4 شيكل) لا تكفي للحاجات الأساسية”.
ويقول الرجل الذي تتحدر عائلته اللاجئة من قرية سلمة قرب يافا “أتمنى أن يُسمح لنا بالعمل في إسرائيل، وأن يعمل أولادي العاطلون عن العمل”.
وسمحت إسرائيل لنحو أربعة آلاف فلسطيني من غزة بالعمل في قطاعي الزراعة والبناء داخل المناطق الإسرائيلية، تطبيقا لتفاهمات التهدئة التي توصلت إليها مع حركة حماس بوساطة مصر والأمم المتحدة خلال السنتين الأخيرتين، لكن بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد، أغلقت معابر القطاع منذ مارس الماضي.