مع الفورة التي باتت تعرفها القنوات الافتراضية والتلفزية المتخصصة في الطبخ، أصبح من المشروع طرح السؤال حول هوية المطبخ المغربي، في ظل ما تقدمه تلك القنوات من وصفات وأطباق تستمد مقوماتها من أنظمة غذائية أجنبية عن العادات الغذائية للمغاربة.
ولعل تحولات السياق المجتمعي المغربي، وإكراهات المعيش اليومي، والانفتاح بفعل الثورة التكنولوجية على ثقافات العالم، كان له دوره في التغير الذي حدث على النظام الغذائي المغربي، والاتجاه إلى النهل من مدارس مطبخية أخرى، مع ما يحف ذلك من محاذير تمس الهوية الوطنية التي يعد المطبخ من أهم عناوينها.
فالمطبخ المغربي، الذي يعتبر من أشهر المطابخ عبر العالم وأعرقها، تمتد جذوره لآلاف السنين، ويمتح من حضارات كان لها تأثيرها البارز على العادات الغذائية وأنماط العيش داخل المغرب.
وبرأي الباحث في تاريخ الطبخ المغربي، هشام الأحرش، فإن “المغاربة، اليوم، مطالبون بنفض الغبار عن الموروث المطبخي المغربي، فما يتداول الآن لا يمثل إلا النزر القليل من هذا الموروث، وهناك العديد من المراجع التاريخية التي احتفظت لنا بهذا الموروث، ومن أهمها (أنواع الصيدلة في أنواع الاطعمة) لكاتب مجهول من العصر الموحدي، وكتاب (فضالة الخوان) لابن رزين التيجبي وهو كتاب عن الطبخ من العصر المريني”.
ليؤكد أن المطبخ المغربي يتميز بكونه مطبخا منفتحا على مختلف الحضارات، ويعكس بجلاء تلاقحها على أرض المغرب، فهو يجمع بين الأصول البابلية (أي قبل 3 آلاف سنة)، والروافد الإغريقية والرومانية والفنينقية، مرورا بأرض العراق، مرة أخرى، زمن الخلافة الإسلامية.
وكل تلك الروافد، يضيف الباحث في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء بهذا الخصوص، انصهرت في بوتقة مغربية تمتد بدورها لآلاف السنين، لشعب مغربي ضارب في القدم، قدمت للعالم إرثا غذائيا متنوعا بتنوع ما تنتجه أرض المغارب منذ قرون خلت.
ومن هذه الزاوية، فأرض المغرب والأندلس، ملتقى تلك الحضارات أجمعها، يستطرد المتحدث ذاته، كانت هي المستأمن على كل ذلك الإرث، فجاءت الأطباق المغربية حافلة بكل تلك النكهات، لتكون خير شاهد على كل تلك الحقب .
وأبرز، في هذا الاتجاه، أنه في الوقت الذي فقدت فيه الشعوب الأخرى الكثير من تاريخها المطبخي، استطاع المغاربة أن يحافظوا على موروثهم في عملية تراكمية، ممتدة عبر الزمن، ما يجعل منه ثروة لا مادية يجب المحافظة عليها وتنقيحها وإحياؤها من جديد، عبر التنقيب في التراث المغربي العريق، فالمطبخ المغربي علامة هوياتية للمملكة، يمكن استثمارها في التعريف بالحضارة المغربية الأصيلة والترويج لها، فالشعوب حينما تعرف عن نفسها تتحدث عن اللباس والمعمار والطبخ.
عراقة وأصالة وتميز يشدد عليها الرئيس المدير العام لمجموعة “نيوريست رحال” كريم رحال، في حديث مماثل، إذ يشير إلى أن “الطبخ المغربي الأصيل هو فن مصنف، ويحتل المراتب الأولى على المستوى الدولي، أضف إلى ذلك أنه ينتمي إلى فئة قليلة من الفنون التاريخية، والتي لها جذور ترابية وفلاحية وأصول إثنية مختلفة، من الإغريق و الرومان و الأمازيغ و العرب و غيرهم من التيارات الثقافية”.
ولهذا، بحسب رحال، فالحديث عن منافسة يواجهها هذا الفن المغربي العريق “أمر طبيعي و مستحب”، مشددا على اهمية انخراط مجموع المتدخلين في المجال المطبخي للنهوض بفنون الطبخ المحلية، وهو ما تحرص عليه مجموعة “نيوريست رحال” التي تسهر على التعريف بالعلامة المغربية في المنتديات الدولية، حيث دأبت على المشاركة بفرق مغربية في كؤوس العالم للطبخ، والحلويات، والخبز والطهي والمثلجات والشكولاطة، وهي المشاركات التي توجت بالحصول عدة مرات على جوائز دولية.
ولتثمين المطبخ المغربي والمحافظة عليه كرمز للهوية المغربية، يرى رحال أن المطبخ المغربي له أصالته التي تجعله متفردا بطبيعته الخاصة، إذ تم تصميمه للأسرة والعائلة والعشيرة و القبيلة.
فهو “يكاد لا يقبل الاستهلاك الانفرادي، أو التحميل خارج محل التحضير، أو حتى الإعداد المسبق أو التجوال، لذلك، عملت المجموعة على تطوير منتوجات المطبخ المغربي في حلة جديدة، تحافظ على أصالة الذوق وجمال الرونق، مع قبول مبدأ التصنيع الغدائي (modélisation) من أجل ضمان المنتوج نفسه في أي مكان و أي وقت، مع ضمان شروط السلامة الغذائية.
وإلى جانب خصائصه الهوياتية والحضارية، يمتاز المطبخ المغربي بأطباقه العريقة بقيمته الغذائية الكبيرة، وهو ما يشدد عليه الأخصائي في التغذية نبيل العياشي، الذي أبرز أن النظام الغذائي المغربي يتفوق بتواجد مجموعة من الأغذية التي لا نجدها في أي بلد آخر، وتنفرد بمكوناتها التي تجمع بين عناصر غذائية متكاملة.
ونوه العياشي، في حديثه للوكالة، أنه بفضل التنوع الجغرافي والثقافي للمملكة، فإن النظام الغذائي المغربي زاخر بأطباق تتلاءم والخصائص المجالية لكل منطقة، وهو ما يكسبه تنوعا قلما تعثر عليه في أنظمة أخرى، وذلك بتنوع المناخ ونمط العيش والتضاريس، لتجتمع بالمغرب أنماط غذائية تفرقت في غيره من البلدان.
وهذا التنوع، يضيف، هو الذي يكسب النظام الغذائي المغربي قيمة غذائية جد مهمة، سواء من حيث المكونات الغذائية أو من حيث نمط الطهي، إذ أن الأطباق المغربية تجمع العناصر الغذائية الضرورية للجسم.
فمثلا الخبز الكامل أو خبز الشعير المعجون باستعمال الـ”خميرة البلدية” أو الحساء التقليدي “الحريرة” أو الكسكس أو الطاجين أو البيصارة، كلها أطباق جمع فيها المغاربة المجموعات الغذائية الضرورية لبناء الجسم ومده بالطاقة وحمايته من الأمراض، فتجد فيها مصادر الطاقة كما تجد فيها الفيتامينات والأملاح المعدنية والألياف والبروتينات، مع اهتمام كبير باستهلاك الخضر بكل أنواعها مقابل استهلاك محدود للحم، وهو ما يستيجب لتوصيات منظمة الصحة العالمية بهذا الخصوص .
غير أنه يتأسف “لكوننا أصبحنا نلاحظ أن الاهتمام بها صار ضعيفا، بسبب الإقبال على الأنظمة الغذائية الغربية والتسويق لها بقوة، وابتعدنا عن مجموعة من العادات المفيدة للجسم والتي تقيه من مجموعة من الأمراض كأمراض القلب والشرايين وارتفاع نسبة الدهون والجهاز الهضمي والأمراض السرطانية “.
وعن علاقة التحولات الاجتماعية بتغير العادات الغذائية للمغاربة، يوضح أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، سعيد بنيس، أن دخول العهد الرقمي أسهم في تلك التحولات، حيث اكتشفنا وصفات جديدة أقبلت عليها كل الفئات العمرية في إطار تجريب مطابخ أخرى جديدة .
وتابع أن توافد فاعلين جدد من مدارس مطبخية مختلفة، قرب المستهلك المغربي من ألوان مغايرة لما ألفه من وصفات، والذين تعرف من خلالهم على أطباق جديدة تلائم متطلباته اليومية وقدراته المادية .
ولابد هنا، حسب هذا الباحث، من الأخذ في الاعتبار أن المعطى المادي عامل محدد في اختيار الوجبة التي سيتم تناولها، فإضافة إلى عنصري السرعة والقرب من خصائص المطبخ المغربي (التوابل)، فهي تتميز بثمنها المناسب للقدرة الشرائية للمواطن .
وأشار، في هذا السياق، إلى أن نسق التحول المجتمعي جعل المغاربة ينتقلون من مجتمع منغلق إلى مجتمع منفتح حتى في عاداته الغذائية، فبعد ما كان الأكل داخل البيت طقسا مقدسا عند جميع أفراد الأسرة، أصبحنا اليوم نرى الأسرة وقد اعتادت على الأكل في الخارج ولو مرة واحدة في الأسبوع بمختلف طبقاتها الاجتماعية،
وبعد أن كان من غير المقبول اجتماعيا أن تقوم الأسر بشراء الأكل من خارج البيت مع ما في ذلك من مساءلة لقدرة المرأة على تدبير شؤون المنزل، بات الجميع معتادا على رؤية أسر كاملة تتناول غذاءها أو عشاءها بالخارج.
ونبه بنيس إلى أن الوصفات التي تعرض بالخارج وجدت طريقها إلى البيت، وأصبحت تعد منزليا لكلفتها المنخفضة مقارنة بالمطاعم، وخاصة بعدما أصبحت مجموعة من المؤسسات التعليمية تعتمد التوقيت المستمر، إذ وجدت الأسر في تلك الوصفات الحل الأنسب، وصارت تقدم لأبنائها وجبات سريعة من مطابخ مختلفة عن المطبخ المغربي .
وبالنسبة إليه، فإن تغير العادات الغذائية داخل المجتمع المغربي أسفر عن نوع من “الاغتراب المطبخي” (Exotisme culinaire) في المائدة المغربية، وهو ما يطرح تساؤلات بخصوص تدبير الثقافة الغذائية، لاسيما بالنسبة للأطفال الذين هم في حاجة لوجبات ذات قيمة غذائية عالية ومفيدة.
وعليه، يضيف هذا الباحث، فنحن في حاجة إلى إجراء بحث وطني تحت رعاية وزارتي الصحة والتعليم، من طرف فرق بحث متعددة التخصصات،للوقوف على الظاهرة ورصد امتداداتها داخل المجتمع، وكل ذلك من أجل الحفاظ على التراث المطبخي المغربي وحمايته من الروافد الدخيلة عليه، مع القيام بحملات التوعية داخل المؤسسات التعليمية بهذا الخصوص، تعميقا لانتماء التلاميذ الوطني، وكنوع من ترسيخ شعور “التمغربيت” لديهم.