أفرزت جائحة فيروس كورونا المستجد تحولات جذرية على شتى المستويات وفي مختلف المجالات وفرضت جملة من التغييرات والخيارات الاضطرارية البديلة التي تستدعي تقييمها واستشراف آفاقها.
وكان من التحولات التي شهدتها السنة التي تشارف على نهايتها اعتماد نمط العمل عن بعد بديلا للعمل الحضوري، تماشيا مع التدابير الاحترازية التي أقرتها السلطات العمومية لتطويق تفشي الوباء.
ولئن كان من المبكر تكوين صورة شاملة وإصدار حكم موضوعي على هذه العملية المستجدة بمنهجية علمية، فإن المعطيات التي أفرزتها هذه التجربة تسمح باستقاء خلاصات أولية يمكن البناء عليها في استشراف إمكانية استمراريتها وإدخال ما يلزم من تعديلات وتحسينات عليها.
في تقييمه لهذه التجربة الفريدة حتى الآن، يرى أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة التابعة لجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، الطيب بوتبقالت، أن من الخلاصات الأساسية لهذه التجربة أن نظام العمل عن بعد بات يفرض نفسه في المملكة باعتباره ضرورة من الضرورات الملحة التي من الواجب اعتمادها قصد مواكبة عصر تكنولوجيا الإعلام والاتصال والانخراط في مجتمع المعلومات والذكاء الاصطناعي.
وسجل بوتبقالت في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن نظام العمل عن بعد انطلق جزئيا بالمغرب منذ بضع سنوات في كثير من مؤسسات القطاعين العام والخاص، ولكن بشكل “بطيء ومحتشم”، وجاءت جائحة كورونا لتضخ فيه دفعة قوية لم تكن في الحسبان وتساهم اضطرارا في تسريع وتيرته وتعميمه.
وكأي تجربة مستجدة، تنطوي تجربة العمل عن بعد على مزايا وسلبيات قد لا تتم استبانتها في الوقت الراهن بدقة في غياب تراكمات كمية وكيفية تساعد على رصدها. ومع ذلك، يرى الأستاذ بوتبقالت أن هناك اعتقادا سائدا مفاده أن هذا النمط من العمل ينطبق عليه منطق “رابح-رابح” للأطراف المعنية، بالنظر إلى ما يوفره من مرونة وحرية في إبرام عقود الشغل وفقا لمبدأ العرض والطلب، من جهة، وما يتيحه من توازن بين الحياة المهنية والحياة الخاصة للموظف أو المستخدم، من جهة ثانية، فضلا عن ربح الوقت وتقليص نفقات التنقل والأخطار المحتملة من جراء التوتر والإجهاد نتيجة لظروف والعمل الحضوري.
يضاف إلى هذه المزايا، حسب أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال، تفادي هجرة العمالة وتعويضها بالعمل عن بعد لفائدة كافة الأطراف المتدخلة في سوق الشغل. كما أن العمل عن بعد يحفز الأطراف المعنية على الانخراط الفعلي في ولوج مجتمع المعرفة المعلوماتية وما يقتضيه ذلك من تكوين وتكوين مستمر باعتباره شرطا أساسيا في إنجاح أي مشروع تنموي، ومن ثم الانصهار في سياق التطور الحضاري المعولم بشكل غير مسبوق في التاريخ البشري.
أما سلبيات هذا النمط من العمل، فيعدد بوتبقالت بعضا منها في إشكالات ما يسمى ب”الأمن السيبراني”، وعدم الاستقرار النسبي في وظيفة معينة أو عمل دائم، وتذويب روح فريق العمل في “خوارزميات وتطبيقات إلكترونية عديمة الشحنة الإنسانية الحية”، مما ينتج عنه عزلة اجتماعية نظرا لغياب التواصل الشخصي التفاعلي في بيئة العمل الحقيقية.
وفضلا عن ذلك، يضيف السيد بوتبقالت، فإن العمل عن بعد من المنزل من شأنه أن يعزز الدفء العائلي، غير أنه قد يؤدي إلى عكس ذلك تحت وطأة الضغط المباشر للقيام بالعمل في عين المكان/المنزل. “وفي كلتا الحالتين يبدو جليا أن نمط العمل عن بعد أشبه بسيف ذي حدين، شر وخير في آن واحد، وجب استخدامه بكفاءة وفعالية ومسؤولية”.
وحول إمكانية استمرار خيار العمل عن بعد بعد انتهاء الجائحة في ضوء ما أفرزته هذه التجربة من خلاصات ودروس، يرى أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال أنه يمكن النظر إلى جائحة كورونا من زاوية إيجابية، “فبفضلها انخرطنا بشكل لا رجعة فيه في عهد التكنولوجيا المتطورة التي ستتمخض عن تحولات جوهرية ومصيرية في شتى المجالات”، وستصبح هذه التجربة “حتمية حضارية بلا شك”.
وسجل بوتبقالت أن وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة أصدرت، في شهر أبريل الماضي، دليلا يحمل عنوان “العمل عن بعد بالإدارات العمومية”، تضمن مجال تطبيق العمل عن بعد، وضوابطه، ومعايير اختيار الوظائف الملائمة، والتزامات الإدارة والموظف، وآليات التنفيذ.
وتوقف الأستاذ الجامعي عند مفهوم “العمل عن بعد” الوارد في هذا الدليل، الذي يؤكد على أنه “يتأسس مفهوم نظام العمل عن بعد على منح الموظف أو المستخدم إمكانية تأدية واجباته الوظيفية سواء بشكل جزئي أو بشكل كامل، من مواقع مختلفة وبعيدة عن مقرات عملهم المعتادة، وهو بذلك يعتبر أحد خيارات العمل البديلة التي تضمن استمرارية المرفق العام من خلال تأدية الأعمال والمهام المرتبطة بتقديم الخدمات العمومية، ويمكن اعتماده من طرف الإدارة في الحالات التي تتطلب تأدية الأعمال وإنجاز المهام من خارج مقر العمل عوضا عن التواجد كليا أو جزئيا في مقرات العمل، دون أن يعتبر ذلك نوعا من أنواع الإجازات”.
وخلص بوتبقالت، في ضوء ذلك، إلى أن استمرار هذه التجربة لم يعد مسألة تخمين أو استشراف بل أصبح واقعا يتطور باضطراد.