إنه يوم مشمس على قناة ويستهافن، بقلب المنطقة الصناعية في العاصمة الألمانية برلين، حيث تصطف المصانع والرافعات على الجانبين. عند نهاية يوم عمل داخل مبني خرساني مكوّن من سبعة طوابق، توجه العاملون مرتدين أقنعة الوجه إما نحو الباصات المركونة ليساعدهم الطاقم على ركوبها، أو نحو المحطة القريبة للقطار.
المكان ليس مصنعا عاديّاً بل ورشة وقائية (sheltered workshop)، يعمل فيها ذوي الإعاقات العقلية أو الجسدية. وظهر هذا النوع من الورش في ألمانيا منذ أكثر من خمسين عاما، لكنها باتت اليوم مهددة بالإقفال بعدما أوصى البرلمان الأوروبي بشهر مارس الجاري بإقفالها أو بتغيير قوانينها الداخلية.
أكثر من مجرد مكان عمل!
ويوضح ديرك غيرستل، المدير العام لأحد هذه الورش عن وجود ”مجموعة من كبيرة من الأشخاص تعمل هنا، تتنوع بين أولئك الذين يواجهون صعوبات في التعلم وآخرين يعانون من إعاقات جسدية حادة”.
وتعتبر ورشة “BWB” الأكبر في برلين بحوالي 1600 عامل. وهي واحدة ضمن أكثر من 3000 ورشة من هذا النوع داخل ألمانيا تشغّل نحو 320 ألف عامل. يتولى العاملون مهام متعددة بداية من الأعمال الحرفية وصولا إلى المهام الإدراية بما يتناسب مع خبراتهم وقدراتهم.
ويوضح غيرستل أن إصدار موافقة فتح هذا النوع من الورش يتضافر مع مسؤولية رعاية وإعادة تأهيل الموظفين، على حد تعبيره. ويؤكد المسؤول أن العاملين يتلقون داخل هذه الورش الدّعم النفسي والجسدي مشبها الورشة بمجتمع مصغّر أو أسرة كبيرة.
ألمانيا تنتهك اتفاقية للأمم المتحدة!
في ذات الوقت، يقرّ غيرستل أنه يتم فصل العاملين ذوي الإعاقات عن أقرانهم، نظرا لقلّة المساحات داخل الورش. وهذا ما يخالف بوضوح توصيات اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقات، والتي صادقت ألمانيا عليها في عام 2008.
تطالب المادة 27 من الاتفاقية بـ ”تشجيع الأشخاص ذوي الإعاقة على الحصول على الخبرة في سوق عمل مفتوح”، أي لا يجوز حجبهم عن باقي المجتمع. وفي تصريح لموقع دويتشه فيله DW، اعتبرت العضوة في البرلمان الأوروبي كاترين لانغنسيبن أن حقيقة بقاء الوضع كما هو عليه لسنوات بعد التوقيع على الاتفاقية الأممية، يعد ”استمراراً لفشل دول الاتحاد الأوروبي بالوفاء بالتزاماتهم”، على حد قولها.
وساهمت لانغنسيبن، وهي أول سيدة تعاني من إعاقة بصرية يتم انتخابها لعضوية البرلمان الأوروبي. وفي إطار صياغة استراتيجية أوروبية جديدة للدفاع عن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، أعدّت الأخيرة تقريراً يدعو لإنهاء الورش.
ويطالب تقرير لانغنسيبن، والذي حصل على تزكية كبيرة الأسبوع الماضي، دول الاتحاد الأوروبي ”بضمان فترة مؤقتة داخل هذه الورش خلال المسار المهني لذوي الاحتياجات الخاصة”. وأضافت لانغنسيبن في تصريحها لدويتشه فيله DW: ”بدلا من تشجيع الأنظمة القديمة التي تحجب الأشخاص من ذوي الإعاقة، نحن ندعو لتعزيز البدائل الاجتماعية لكي تتاح للجميع سواء من ذوي الاحتياجات الخاصة أو غيرهم، حتى يعملون سويّاً”.
خيار غير مؤقت!
وفقا للنموذج الألماني الحالي، الهدف الرئيسي للورش هو دمج الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في وظائف أخرى، ولكن على أرض الواقع لا يتمكن سوى واحد بالمئة من هؤلاء من تحقيق ذلك.
من أبرز العوائق، حاجة الورشة المُستقبلة في تحقيق الأرباح حتى تتمكن من دفع نفقات الكراء والرواتب إلى غير ذلك. ما يعني، حسب لانغنسيبن، بأن هذه “الورش ليس لديها دافع لترك الموظفين يمضون قدما”، بل هي تريد ضمان بقاء اليد العاملة. فربما يكون الموظفون الأكثر إنتاجا في الورشة هم الأكثر استعدادا للاندماج بسوق العمل، ولكنهم غالبا من ستفتقد الورش عملهم.
ويشير ديرك غيرستل من جهته، أنه ولمرات يأتي التركيز على تحقيق المكاسب على حساب تشجيع الموظفين على المضي قدما نحو فرص جديدة برواتب أفضل.
وماذا عن الرواتب؟
الرواتب نقطة إشكالية أخرى يتم التركيز عليها من قبل المنتقدين لهذه الورش. العاملة بمنظمة سوشيال هيلدن غير الربحية، تصف ما يتقاضاه ذو الاحتياجات الخاصة بـ”المصروف”، إذ أن ما يحصلون عليه للساعة الواحدة لا يتعدى إلا نادرا يورو واحد، بينما يصل الحد الأدنى للأجور في ألمانيا إلى 9.35 يورو في الساعة.
في المقابل، ترى المجموعة الفيدرالية الألمانية للورش بزيادة الأجور، كما جاء في بيان حصل موقع دويتشه فيله DW عليه، بأن المقارنة بالحد الأدنى للأجور “ليست منطقية”. ويضيف البيان بأن ”هذا الدخل مدعوم ببدل ترقية مموّل من قبل القطاع العام. العمل في الورش لا يقارن مباشرة بالتوظيف بدوام كامل، حيث أن الورش توفر خدمات أخرى مثل العلاج المهني والبدني ودورات لدعم التواصل وأنشطة ثقافية ورياضية، بإمكان الموظفين الاستفادة منها خلال ساعات العمل أيضا”.
وأضاف البيان: ”الأشخاص ذوي الإعاقة الذين لا يمتلكون مصدراً آخراً للدخل سوى الورشة، يحصلون على دعم من الدولة لمصاريف المعيشة مثل إعانات لدفع الإيجارات وخدمات الرعاية ومعاش لانخفاض القدرة على الكسب”. ولكن يرى كثيرون أن الأشخاص ذوي الإعاقات لا بد أن لا يكونوا مجبورين على الاعتماد على العمل في الورش فقط.
وترى الحكومة الألمانية ضرورة في استمرار الورش ضمن خيارات متعددة لتوظيف الأشخاص ذوي الإعاقة. وأصبح الاستثمار في خيارات أخرى متاحاً تحت قانون المشاركة الذي دخل حيّز التنفيذ في ألمانيا عام 2018، وسيستمر تطبيقه في مراحل حتى عام 2023.
وتسعى الميزانيات الجديدة المخصصة للتوظيف والتدريب المهني لتحسين فرص ذوي الإعاقة لدخول سوق العمل، حيث تمّ ضم ذوي الإعاقة في الخطط المستقبلية بحيث يكون لهم أيضا حقّ في ميزانيات التوظيف والتدريب المهني.