أضحت ظاهرة التسول، التي تفاقمت بشكل صارخ في المغرب، خلال السنتين الأخيرتين، جراء جائحة فيروس كورونا الجديد (كوفيد-19)، وما رافقها من إجراءات احترازية، أدت إلى توقف العديد من الأنشطة المدرة للدخل، تؤرق مضجع السلطات العمومية في البلاد، خاصة بعد أن بات ممتهنو هذه الحرفة على اختلاف فئاتهم العمرية يلجأون إلى أشكال وأساليب ملتوية، لجذب عطف المتصدقين.
فعلى الرغم من قدم هذه “المهنة” التي لا يكاد بلد في العالم يخلو منها، بمستويات متباينة، فإنها اتخذت بالمغرب طرقا تدليسية واحتيالية متنوعة، ومتطورة، يتوخى من خلالها المتسولون كسب المزيد من الأموال، فمنهم من يستدر عطف المارة بادعاء الاصابة بعاهة مستديمة، ومن ينتحل هوية مواطن أجنبي تقطعت به السبل، ومن يستغل الأطفال في التسول بهم، بل هناك ميسورون وجدوا في هذه المهنة ضالتهم من أجل الاغتناء مستغلين عطف وسذاجة المتصدقين.
ولا شك أن تداعيات جائحة فيروس كورونا الجديد، أسهمت بشكل كبير في زيادة أعداد جحافل المتسولين، حيث اضطر العديد من المغاربة، أمام توقف انشطتهم، التي تشكل مصدر رزقهم، وانسداد الآفاق أمامهم، إلى مد أيديهم للمارة، عسى أن يحصلوا منهم على النقود، من أجل توفير الطعام والمأكل والملبس والمسكن لأسرهم، إذ لا يكاد زقاق أو شارع يخلو منهم، ناهيك عن المساجد والمقابر خاصة خلال أيام الجمعة والمناسبات الدينية.
حليمة سيدة في الأربعين من عمرها، تخفي ملامح وجهها بكمامة طبية، ووشاح على رأسها، ونظارة سوداء، لم تشعر بأي حرج، وهي تتحدث إلى وكالة أنباء (شينخوا)، عن الظروف التي دفعتها للخروج يوميا رفقة طفلتها التي لم تتجاوز الخمس سنوات، من أجل استجداء المارة للحصول على بعض المال لسد حاجياتها المعيشية، بعد أن وجد زوجها ومعيلها الوحيد، نفسه بدون عمل عندما قرر رب مصنع الملابس الذي كان يشتغل لديه إلى تسريحه رفقة آخرين، عقب تراجع نشاط هذه الوحدة الصناعية جراء اجراءات الاغلاق الناجمة عن جائحة كورونا. “لم يخطر ببالي يوما أن أجد نفسي عرضة للتسول”، تقول حليمة وقد اغرورقت عيناها بالدموع، فيما تخطف طفلتها الجالسة إلى جانبها على قارعة أحد شوارع العاصمة المغربية الرباط، نظرات نحو المارة لعلها تستدر عطفهم ويجودوا على أمها ببعض الدريهمات، مضيفة “لست من اللائي يصطحبن الأطفال للتسول بهم، هذه ابنتي أصطحبها معي لحداثة سنها وخوفا من ان يصيبها مكروه ببقائها وحدها بالمنزل”.
ولا تقتصر ظاهرة التسول بالمغرب على المواطنين المحليين، بل تمتد أيضا، وبنسب متفاوتة، إلى المهاجرين الافارقة خاصة القادمين من بلدان واقعة جنوب الصحراء، والذينيلجأون، بعد إقدام السلطات المغربية على اغلاق المقاهي ليلا خلال الشهر الفضيل، ضمن اجراءات الحد من انتشار فيروس كورونا الجديد، إلى الاسواق سواء التقليدية او العصرية منها، بغية الظفر ببعض المواد الغذائية التي اضحى العديد من المحسنين يتصدقون بها عوض النقود.
ويضاف هؤلاء الافارقة إلى أعداد كبيرة من اللاجئات السوريات اللائي غالبا ما يعمدن إلى طرق أبواب المنازل للحصول على الصدقات، حيث تعمد العديد من النساء المغربيات إلى انتحال هويتهن، واستجداء المساعدات على اعتبار انهن قادمات من سوريا هربا من الحرب، إحداهن (أ. ب) تبدو شابة لم تتجاوز بعد الثلاثين من عمرها، اعترفت في بوح لـ (شينخوا) قائلة “أجدني مضطرة إلى اللجوء إلى هذا الأسلوب بعد ان تعلمت التحدث باللغة السورية… العديد من المغاربة يتعاطفون مع اخوانهم السوريين ويغدقون عليهم الصدقات، وان لم أفعل ذلك، لن يتصدق علي أحد خاصة وان مظهري لا يوحي بفقري، ولن أجد ما أسد به رمقي انا وأبنائي ووالدتي وزوجي، الذي لا يتحرك من مكانه في ركن من بيتنا المتواضع بعد ان تكالب عليه مرض السرطان”.
وبرأي العديد من الأخصائيين، فإن ظاهرة التسول لا ترتبط دائما بالهشاشة والفقر، بل مردها ايضا إلى التفكك الأسري، الناجم عن انفصال الوالدين، وما يترتب عنه من تشرد الأبناء وسقوطهم في براثن التسول.
ويشار إلى أن عدد المتسولين بالمغرب يناهز بحسب إحصائيات رسمية 200 الف، لكن تقارير وأبحاث غير رسمية تتحدث عن وجود أزيد من 500 ألف متسول بالمغرب حاليا، وهو رقم تفاقم جراء أزمة (كوفيد-19) وبالتزامن مع شهر رمضان.
ويرى الباحث في السياسات الاجتماعية بالمغرب، محمد تاوناتي، أنه على الرغم من الجهود التي بذلتها السلطات من أجل القضاء على هذه الظاهرة، التي يجرمها القانون، فإن أعداد المتسولين بالبلاد في تزايد مستمر، جراء تفاقم الهجرة من البوادي إلى المدن، بفعل توالي سنوات الجفاف، والأزمات الاقتصادية والصحية، مشيرا إلى أن فئات عريضة من المغاربة، ولأسباب متعددة “طبعوا مع التسول وأضحت مسألة الكرامة لا تعني شيئا بالنسبة لهم وجيوبهم فارغة”.
وأضاف الباحث في تصريح لـ(شينخوا) أنه اذا كانت هناك شرائح من المواطنين قد لجأت إلى مد أيديها للناس، بسبب ضيق ذات اليد، وعدم قدرتها على مجاراة أعباء الحياة، فان شرائح أخرى جعلت من هذه الظاهرة وسيلة لجمع المال، محولة إياها إلى “أصل تجاري” . ولاشك أن اجتثاث آفة التسول، بالمغرب تستدعي، وفق المختصين، مضاعفة الجهود وإعادة النظر في جدوى الاستراتيجيات الاجتماعية، من أجل إيجاد حلول جذرية للفقر، واستئصال أسبابه.