النموذج التنموي الجديد.. خيارات استراتيجية ورهانات مستقبلية

تقتـرح اللجنـة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، خيـارات اسـتراتيجية مـن شـأنها إطلاق ديناميـة جديـدة لخلـق الثـروة تمكـن مـن إدمـاج جميـع المواطنيــن وجميــع المجــالات الترابيــة وتعبــئ إمكانــات البــلاد وتغتنــم كافــة الفــرص المتاحــة.

وحسب النموذج الجديد، الذي قدمه شكيب بنموسى، بين يدي الملك محمد السادس، فان بعــض مــن هـذه الخيـارات تتضمـن تعزيـز مـا هـو قائـم أو تسـريع وتيـرة الإصلاحات الجاريـة. وهنـاك خيـارات أخـرى هـي بمثابـة قطيعـة مـع الوضـع الراهـن، علـى الأقل فيمـا يخـص المنهجيـة، أو فيمـا يتعلـق بالهـدف المنشـود، ممـا يسـتدعي تغييـرا عميقـا فـي طـرق العمـل والذهنيـات.

فعلـى المسـتوى الاقتصادي، تعتبـر اللجنـة أنـه مـن الضروري تسـريع وتيرة التحـول الهيكلي للاقتصاد الوطني قصـد جعلـه أكثـر ديناميـة وتنوعـا وتنافسـية، وقـدرة علـى خلـق مزيـد مـن القيمـة المضافـة ومناصـب الشـاغرة، ذات جــودة ومــدرا للمــوارد مــن أجــل تمويــل الحاجيــات الاجتماعية. ولهــذا يجــب التركيــز علــى دعــم قــدرات الاقتصاد الوطنــي مــن حيــث الصمــود والتكيــف ســواء مــع تبعــات الأزمة الحاليــة أو مــع أزمــات أخــرى التــي مـن المتوقـع أن تـزداد وتيرتهـا وحدتهـا مستقبلا.

وباعتبـاره دعامـة لمغـرب مزدهـر، فـإن التحـول الهيكلـي للاقتصاد يفــرض تحديــدا، تحريــر المبــادرة الخاصــة وبــث روح المقاولــة مــن خــال منــاخ أعمــال شــفاف مطمئن وتوقعـي، وعبـر مسـاطر مبسـطة وتقنيـن مسـتقل يحفـز بشـكل ملمـوس ولـوج فاعليـن جـدد أكثـر ابداعا، وتحسـين تنافسـية النسـيج الاقتصادي عبـر التقليـص مـن تكلفـة عوامـل الإنتاج وبشـكل خـاص الطاقـة واللوجسـتيك، وكذا توجيـه اسـتثمارات القطـاع الخـاص سـواء تعلـق الأمر بكبريـات الشـركات أو المقاولات الصغـرى والمتوسـطة، نحـو القطاعـات الرائـدة والمسـتقبلية وأيضـا نحـو الارتقاء بالنظـام الإنتاجي، وذلـك عبـر إطــار تحفيــزي ملائم والولــوج الموســع إلــى آليــات التمويــل المتعــددة، عبــر مواكبــة المقاولات لتعزيــز قدراتهـا التدبيريـة والتنظيميـة والتكنولوجيـة، وتثميـن الاقتصاد الاجتماعي وجعلـه دعامـة للتنميـة ومصـدرا لخلـق فـرص الشـغل اللائق داخـل المجالات الترابيـة.

وأكدت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، علـى ضـرورة اعتمـاد مقاربـة نسـقية ومندمجـة، حيث تطرقـت بدقـة لبعـض الأنشطة القطاعيـة، اعتبـارا لمكانتهـا فـي الاقتصاد الوطنـي ونتيجـة للإشكاليات التـي طرحتهـا أزمـة كوفيـد-19، علــى مســتقبل هــذه القطاعــات، خصوصــا فيمــا يتعلــق بقضايــا الســيادة والقــدرة علــى مواجهــة
الأزمات. ويتعلـق الأمر بـكل مـن قطاعـي الفلاحة والسـياحة.

وأوضحت اللجنة، بالنسـبة للقطـاع الفلاحي، فـإن الأزمة الصحيـة الراهنـة أبـرزت الرهانـات المرتبطة بالسـيادة الغذائيـة، وضرورة تطويـر فلاحة عصريـة، وذات قيمـة مضافـة عاليـة، دامجـة وتكـرس معاييـر المسـؤولية الاجتماعية والبيئيـة. وبالإضافة الـى تقويـة اندمـاج سلاسل القيمـة الفلاحية، مـن أجـل تثميـن أفضـل للإنتـاج المحلـي، وإعطاء الأهمية المستدامة للمـوارد خصوصـا المـاء، فـإن ترسـيخ السـيادة الغذائية يسـتدعي تحفيـز أنشـطة البحـث، والابتـكار وإرسـاء حكامـة شـمولية أكثـر تنسـيقا علـى مسـتوى المجالات الترابيـة.

وفيمـا يتعلـق بقطـاع السـياحة، قالت اللجنة أن آثـار الأزمـة الصحيـة تجعـل مـن الضـروري إعـادة التفكيـر فـي تطـور هـذا القطـاع وفـق مقاربـة ترتكـز علـى الاستدامة، ودعـم قـدرات الصمـود أمـام الأزمات. مؤكدة أن هـذا القطـاع إلـى نفـس جديـد، يمتـد علـى المـدى المتوسـط والبعيـد، ويرتكـز علـى تثميـن مؤهلات كافـة المجـالات الترابيـة، قصــد تحفيــز الســياحة الداخليــة وكــذا الرفــع مــن جاذبيــة القطــاع لبعــض مكونــات الطلــب الخارجــي. ولهــذا الغـرض، يتحتـم تكميـل عـرض الإيواء بعـرض يخـص التنشـيط وتقديـم تجـارب متنوعـة ذات جـودة، وفـق مقاربــة منظوماتيــة، وكــذا دعــم ريــادة الأعمال وتعزيــز الكفــاءات فــي مجــال الخدمــات الســياحية وتســريع التحـول الرقمـي للقطـاع، بالإضافة إلـى تعزيـز التنسـيق علـى المسـتويين الاستراتيجي والعملـي.

وأضاف المصدر، أن تجويـد الرأسـمال البشـري مـن أجـل مغرب الكفـاءات، بات أمـرا ضروريا لتحريـك آليات الارتقاء الاجتماعي، لتمكيـن المغـرب مـن التحسـين الكبيـر لترتيبـه ضمـن التصنيفـات العالميـة ذات الصلـة وذلـك بفضل الترسـيخ القـوي لاقتصاد المعرفة، فـي مجالـي الصحـة والتعليـم، باعتبارهمـا ركائـز هامـة لتجويـد الرأسـمال البشـري، وهنا تقترح اللجنة،
التعزيـز الجوهـري لعـرض الخدمـات العموميـة بمجمـوع المجـالات الترابيـة، وضمـان الولـوج المنصـف إليهـا، وذلك إلـى جانـب قطـاع خـاص كشـريك مسـؤول ونزيـه، الى جانب التركيـز علـى جـودة الخدمـات وتقييمهـا انطلاقا مـن المعـارف المكتسـبة مـن طـرف التلاميذ ومـن مسـتوى كفـاءات الطلبـة وقابليتهـم لولـوج سـوق الشـغل وكـذا عبـر عـرض صحـي يواكـب التعميـم الفعلـي للتغطيـة الصحيـة.

وتابعت اللجنة، أنه وجب تثميـن المـوارد البشـرية وتقويـة قدراتهـا سـواء بالنسـبة للأساتذة والباحثيـن، أو الأطباء ومسـتخدمي القطـاع الصحـي، وفـي هاذيـن القطاعيـن، لا يمكـن تجويـد أداء ونجاعـة المرافـق العموميـة دون حكامـة ترابية واستقلالية أكبر للمؤسسـات التعليميـة والجامعـات والمراكـز الاستشفائية، مضيفة أن هذا يتحقـق فـي إطـار مـن المسـؤولية إزاء الالتزامات المبنيـة علـى النتائـج والنجاعـة وآليـات منتظمـة للتقييـم.

وبشــكل أكثــر تحديــدا، تــرى اللجنــة أنــه بالإضافة الــى مهمتهــا الجوهريــة فيمــا يتعلــق بالتكويــن وتنميــة القـدرات، فـإن المدرسـة المغربيـة يتحتـم عليهـا الاضطلاع بـدور هـام فـي مجـال نشـر وترسـيخ القيـم، مـن خلال تربيـة وطنيـة ودينيـة متجـددة، تسـتند علـى تاريخنـا العريـق. وغنـى وتنـوع ثقافتنـا الوطنيـة وارتباطنـا بمنهـج الاسلام المبني علـى التآلـف والتضامـن. وعبـر تطويـر قيـم المواطنـة، التـي تكـرس احتـرام الآخر، بمنــأى عــن الاختلافات، وأهميــة المنفعــة المشــتركة وســمو المصلحــة العامــة والمشــاركة المواطنــة، فإنــه بالإمكان تقويـة الشـعور بالانتماء للوطـن وترسـيخ التشـبث بثوابـت الأمة.

فـي قطـاع الصحـة، تقول اللجنة الخاصة: “إن التحديـات الجديـدة التـي تطرحهـا أزمـة كوفيـد-19 والمخاطـر المحتملـة لظهـور أزمـات صحيـة مستقبلا، تجعـل مـن الضـروري والملـح تقويـة قـدرات منظومـة الصحـة مـن حيـث اليقظـة والوقايـة والصمــود. وبالمــوازاة مــع تعزيــز الجهــود المبذولــة حاليــا مــن أجــل اســتدراك التأخــر الهيكلــي ومقاومــة آثــار الجائحـة الحاليـة، سـيكون مـن المهـم بـذل جهـود كبيـرة لتقويـة السـيادة الوطنيـة فـي مجـال الصحـة، عبـر تطويـر صناعـة صيدليـة وطبيـة تكـون قـادرة علـى إنتـاج الأدوية، واللقاحـات وإجـراء الفحـوص فضـلا عـن المعـدات الطبيـة والمسـتهلكات الطبيـة، للاستجابة للحاجيـات الوطنيـة فـي هـذا المجـال وأيضـا لتلبيـة طلـب البلـدان الأفريقية”.

وتابعت اللجنة: “يظــل إدمــاج الجميــع، بشــكل يكفــل كرامتهــم، قضيــة محوريــة مــن أجــل إرســاء قواعــد عيــش مشترك، يفسـح المجـال أمـام فـرص المشـاركة فـي وجـه كافـة المواطنين. منسـجم ومسـتقر يعـزز الرابـط الاجتماعي ويسـتدعي مغـرب الإدماج إعطـاء الأولوية للدفـع بصفـة إراديـة ومقصـودة نحـو الاستقلالية ومشـاركة المـرأة، ودعـم إدمـاج وتنميـة الشـباب وتحديـدا مـا مجموعـه 5.4 مليـون شـاب غيـر نشـيط حاليـا، وذلـك عبـر المشـاركة المدنيـة والثقافيـة والرياضيـة، وكـذا مـن خـال الإدماج المهنـي، وضمـان قاعـدة صلبـة للحمايـة الاجتماعية تعـزز القـدرات والإدماج لفائـدة الفئـات المحرومـة، وتجسـد التضامـن بيـن المواطنيـن وفـق مبـادئ المسـاهمات المنصفـة، واسـتثمار التعـدد الثقافـي باعتبـاره رافعـة للانفتاح والحـوار والتماسـك الاجتماعي”.

ودعـت اللجنـة إلـى ضـرورة تعزيـز دور المجالات الترابيـة، انسـجاما مـع التوجـه الجديـد، ومـن أجـل بلـوغ مغــرب الاستدامة، باعتبارهـا نـواة لترسـيخ ديناميـة التنميـة وبنـاء إطـار للعيـش يتسـم بالجـودة لفائـدة المواطــن وكــذا للحفــاظ علــى الاستدامة. وفــي هــذا الصــدد، شددت اللجنة أنه ” يتعيــن العمــل علــى تســريع اللامركزية، والاتمركز مـوازاة مـع النقـل الفعلـي للسـلط، والعمـل علـى أن تمـارس الجهـات وظائفهـا وصلاحياتها بشـكل كامـل، وإعـادة النظـر فـي التنظيـم الإداري للمجالات الترابيـة، وتشـجيع تظافـر جهودهـا بهـدف تحسـين جـودة الخدمـات المقدمـة للمواطنيـن، وكذا تبسـيط حكامـة التخطيـط العمرانـي واعتمـاد سياسـة للسـكن، خصوصـا فيمــا يتعلــق بالســكن الاجتماعي، مــن أجــل تعزيــز التمــازج الاجتماعي ودعــم الادماج السوســيو-اقتصادي”.

وتابعت اللجنة، في نفس الاطار أنه وجب كذلك: “تحسـين إطـار العيـش، مـع عـرض للخدمـات العموميـة للقـرب، ووسـائل نقـل مواتيـة وتسـتجيب لحاجيـات السـاكنة، بالإضافة الـى تعزيـز الربـط الرقمـي، وتعزيـز حمايـة المـوارد الطبيعيـة والتنـوع البيولوجـي وإصلاح قطـاع المـاء عبـر أنمـاط استهلاك تعكـس نـدرة هـذا المـورد الحيـوي. ولإرساء مغــرب الجــرأة، تقتــرح اللجنــة خمســة رهانــات للمســتقبل بإمكانهــا أن تجعــل مــن المغــرب أحــد الأقطاب الإقليمية الأكثر ديناميــة وجاذبيــة فــي المجــال الاقتصادي والمعرفــي. وتتعلــق هــذه الرهانــات بالتكويــن والبحــث الميدانــي فــي خدمــة المجالات الترابيــة، طاقــة تنافســية ومنخفضــة الكربــون، المنصــات الرقميـة والربـط بالصبيـب العالـي للأنترنيت، الآليات المتعـددة لتمويـل الاقتصاد، تعزيز علامة “صنـع فـي المغـرب” كوسـيلة لتثميــن إمكانـات ومؤهلات المملكـة وللاندماج أكثــر فـي سلاسل القيمـة العالميـة”.

وخلصت اللجنة، أن مواكــبة الخيــارات الاستراتيجية الســالفة الذكــر، ومجموع المقترحــات العمليــة والمشــاريع التــي بإمــكان الفاعليــن تملكهــا بغيــة إطــلاق عمليــة التغييــر صــوب الأفق المنشــود.

Total
0
Shares
المنشورات ذات الصلة