منذ خروجه من منزله في مدينة قابس التونسية عام 1991 قاصدا مكان عمله لم يعد المهندس كمال المطماطي لعائلته حتى الآن، ولو على شكل خبر حزين.
إنها الجملة القصيرة لقصة الاختفاء المفجع للمهندس التونسي الذي كان ينشط في حركة “النهضة” إبان عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي.
خرج المهندس الشاب يوم 7 أكتوبر 1991 ليلتحق بمكان عمله في شركة الكهرباء الحكومية، إلا أن الشرطة اقتحمت المكان وقادته إلى مكاتب الأمن بمنطقة قابس (جنوب شرق) ولم يظهر له أثر حتى اللحظة.
وفي 20 أكتوبر الماضي، أصدرت المحكمة الابتدائية التابعة للدائرة الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بيانا دعت من خلاله “كل من له معلومة حول واقعة الاختفاء القسري للضحية كمال المطماطي أو مكان وجود رفاته إبلاغ هيئة المحكمة لكشف الحقيقة مع ضمان الحماية الشخصية للمبلّغ”.
والدائرة الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية هي محاكم مختصة بالنظر في انتهاكات حقوق الإنسان بعهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة (1956-1987) وزين العابدين بن علي (1987-2011) وتشكّلت بموجب قانون العدالة الانتقالية الصادر في دجنبر 2013.
آخر مكان
فاطمة بوعناني أم كمال المطماطي تتحدث بكل لوعة عن قصة ولدها الغائب منذ 31 عاما: “عندما أوقفوا ابني كنت في العاصمة تونس للتداوي فجاءتني العائلة للعودة بي إلى قابس فأحسست بأن شيئا ما حدث له وسألتهم فورا ماذا حدث لكمال؟”.
وتقول للأناضول: “وصلت فجرا إلى قابس (400 كلم جنوبي العاصمة تونس) وقلت في نفسي إذا لم يوقفوا كمال سيفتح لي هو باب المنزل، إلا أن والده هو من فتح فعرفت أن مكروها حدث له”.
وتضيف وهي تغالب دموعها: “من الغد ذهبنا إلى مقر منطقة الشرطة في قابس فقالوا لنا إن كمال ليس هنا، وكل يوم كنت أذهب مع زوجته وشقيقاته إلى مركز الشرطة دون جدوى”.
وتتابع بوعناني: “في يوم من الأيام أفرحونا وقبلوا أغراضا لتسليمها إلى كمال وبعد أسبوع أعادوها لنا وقالوا إنه ليس معنا”.
وتواصل: “ذات يوم طلبنا منهم أن نحمل له عشاء فقالوا لنا تفضلوا ففرحنا، فهو مؤشر على أن ابننا حيّ، إلا أنه في المساء وجدنا آخرين رفضوا قبول الأكل وأسمعونا كلاما بذيئا وطلبوا منا الانصراف فعدنا أدراجنا”.
رحلة البحث
وتطلق أم الطماطي زفرة طويلة وتواصل: “بعد إلحاح في طلب الحقيقة في مركز الشرطة بقابس قال لي أحدهم (شرطي) اتبعيني وعندما أقف أمام منزل ما اسأليهم ولا تذكريني سأدلك على شرطي يعرف مصيره”.
وتتابع بوعناني: “طرقت الباب فخرجت لي امرأة طلبت منها أن أقابل زوجها الذي خرج لي وقال إن ابنك في تونس العاصمة ومن الغد ذهبنا إلى العاصمة”.
وتضيف: “ظللت طيلة 4 سنوات أذهب إلى مخافر الشرطة في تونس والسجون ووزارة الداخلية ورابطة حقوق الإنسان (غير حكومية) حتى عام 1995 وفي الآخر قالت لنا سلطات الأمن من قال لكم إن ابنكم هنا؟”.
وتقول أم المطماطي حول آخر رحلة بحث لها عن ابنها الغائب: “قصدنا سجن بنزرت في الناظور وبرج الرومي (شمال) فقال لنا السجان إذا وجدناه سنعلمك وقرأ جميع الأسماء الموجودة فلم يجد اسم ابني في نزلاء السجن”.
طريق مسدود
لم تتوقف فاطمة بوعناني عن البحث ولم تيْأس، ذهبت إلى رشيد إدريس رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريّات الأساسية.
وهي هيئة شكّلها الرئيس زين العابدين بن علي عام 1991 بعد تزايد الانتقادات الغربية ضد انتهاكات حقوقية مورست بحق ناشطي حركة النهضة.
وتذكر بوعناني أن إدريس قال لها: “أنت تعبت كثيرا اتركي الأمر لله واطلبي أن يسمعك خبرا مفرحا عن ابنك”.
وتقول إن النظام آنذاك لم يترك العائلة وشأنها، بل بدأ التضييق عليها هي الأخرى.
وتواصل: “بعد ذلك أتت الشرطة إلى المنزل ليأمروا زوجته (كمال) بالذهاب إلى مركز الشرطة إذا فكرت بالخروج إلى أي مكان، وقالوا لها استخرجي جواز سفر حتى إذا كلمك زوجك من الخارج نتركك تلتحقين به، في محاولة للتمويه بأن كمال غادر البلاد”.
وتتابع بوعناني: “بعد استخراج زوجة ابني جواز سفر أصبحت الشرطة تطرق علينا الباب للسؤال عنها.. وقاموا بمضايقتنا وأوحوا لنا بأن كمال هارب من السلطات”.
إخفاء الحقيقة
وتقول بوعناني إنهم لم يسمعوا بأن ابنهم في عداد المتوفين إلا عام 2011 بعد تبدل وضع الحكم في البلاد، عقب سقوط نظام بن علي في 14 يناير من ذات العام إثر ثورة شعبية.
وتضيف: “سمعنا أن علي عامر طبيب في السجن بقابس أتوا له بكمال بعد تعذيبه لينظر هل هو على قيد الحياة أم لا، لكنهم ضربوه وهددوه بالقتل إذا تكلم وأخرج السر للعلن”.
وتكشف بوعناني: “ذهبت إلى نفس الطبيب في عيادته قبل رحيل زين العابدين بن علي فقال لي نعم أتوا به ورأيته ونقلوه ومن وقتها انقطعت عني أخباره”.
وتزيد: “لكن بعد عام تغيير النظام أتى ذات الطبيب وشهد أمام المحكمة وقال إن رجال الأمن أتوا بكمال وقال لهم إنه متوفٍّ، فقال إنهم هددوه بالقتل إن أفشى السر فصمت عن قول الحقيقة”.
وتذكر بوعناني: “بعد الثورة كل مرة يقولون عن مكان لدفنه، مرة يقولون في المرسى (ضاحية تونس الشمالية) ثم قالوا في قنطرة أو في أي مكان آخر، وإلى الآن لم يرحمونا ويعلموننا بمكان قبره”.
وتقول أمه باكية: “نحن لا نطلب سوى معرفة قبره لنبكيه ونقرأ عليه الفاتحة، ابنته تركها وعمرها 6 أشهر وولده عمره 5 سنوات توفي في حادث وعمره 24 سنة، وابنته تقول الجميع يقول أبي إلا أنا”.
حق إنساني
حسين بوشيبة منسق “التحالف التونسي للكرامة ورد الاعتبار” (غير حكومي) يؤكد متابعة الحقوقيين لقضية المطماطي التي عرضت حتى أكتوبر المنصرم في 15 جلسة أمام المحكمة المختصة في العدالة الانتقالية منذ عقد أول جلسة في 29 ماي 2018.
يقول بوشيبة: “أم كمال المطماطي في هذا العمر المتأخر تريد أن تعرف قبر ابنها وكذلك ابنته وهذا حق إنساني بكل المعايير الدولية”.
ويضيف: “في جمعية الكرامة قدمنا ملفا إلى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في إطار التقرير الدوري الشامل لعام 2014 باعتبار المطماطي مختطفا قسريا ومن حق عائلته وأصدقائه معرفة مكان قبره وإيجاد مسار عدالة انتقالية فيه كشف الحقيقة ومساءلة الجلادين”.
ويتابع: “نعتبر هذه القضية رمزا مهما، لا باعتبار أنها أول قضية عقدت ضمن مسار العدالة الانتقالية، بل بحجم الكارثة والألم الذي وقع، ليس في حق الشخص فقط بل على أمه وأبنائه وأهل قابس الذين يتساءلون أين القبر للترحم عليه”.
من يعرف مكان القبر؟
يقول المحامي مختار الجماعي عضو هيئة الدفاع في قضية كمال المطماطي: “لن ننتظر أكثر مما انتظرنا لإصدار الحكم في قضية الشهيد كمال المطماطي، سنطلب جلسة مرافعات تنتهي بإصدار الحكم”.
ويضيف الجماعي: “السؤال الأول المطروح في هذه القضية هو من القاتل واتضحت معالمه، وهم ثلاثة أعوان من الشرطة في منطقة الأمن بقابس”.
ويتابع: “الإشكال في مكان القبر، وهل دفن في (خرسانة إسمنتية) لأحد الجسور؟ حيث لم تتضافر أدلة على ذلك، فالجسر المشار إليه دخل حيز العمل قبل وفاة المرحوم”.
ويؤكد الجماعي: “ليس من عادات النظام السابق في التعامل مع معارضيه إلقاء الناس في النار أو حرقهم أو وضعهم في جسور (أثناء تشييدها)”.
وفي شهادة أمام المحكمة بقابس في 9 أكتوبر 2018، قال المحامي والسياسي عبد الفتاح مورو إن جثة كمال المطماطي دفنت داخل خرسانة بجسر شارع الجمهورية بالعاصمة.
ويقول الجماعي: “القبر لا يمكن أن يكون إلا في أحد مقابر العاصمة، وتحديدا مقبرة المرسى أو مقبرة الجلاز، ونحن طالبنا بإحصاء القبور خلال 7 أيام من وفاته ونجري التحاليل الجينية”.
ويضيف: “أرشيف وزارة الداخلية لا يمكن أن يسكت عن هذا الموضوع، وعليها ووزارة الصحة التعاون معنا أو تحمل مسؤوليتهما في إخفاء المعلومة”.