و.م.ع
تلقي أزمة مخدر الفنتانيل، الذي يحصد سنويا أرواح عشرات الآلاف من الأمريكيين، بظلالها على الساحة السياسية في الولايات المتحدة، إذ تشكل في الآن ذاته تحديا دوليا وقضية للمزايدات الانتخابية، في أفق الاقتراع الرئاسي المقبل.
فبعد أن اجتاحت أزمة إدمان هذا المخدر الاصطناعي مختلف أنحاء البلاد منذ سنة 2013، أعلنت العديد من الولايات عن حالة الطوارئ.
في بورتلاند، كبرى مدن ولاية أوريغون، تفاقمت أزمة الفنتانيل إلى حد دفع بالسلطات إلى إعلان حالة الطوارئ لمدة 90 يوما.
في يناير الماضي، تحدثت حاكمة ولاية أوريغون، تينا كوتيك، قائلة “لم يسبق لبلادنا وولايتنا أن شهدت انتشار عقار مميت ومسبب للإدمان على هذا النحو”.
يعرف المركز الأمريكي للوقاية من الأمراض ومكافحتها مخدر الفنتانيل بكونه مادة أفيونية اصطناعية تفوق قوته مخدر الهيروين بحوالي 50 مرة والمورفين بـ100 مرة.
ويقسم المركز هذه المادة المخدرة إلى صنفين: الفنتانيل الصيدلاني والفنتانيل المصنوع بشكل غير قانوني. وكلاهما يعد من المواد الأفيونية الاصطناعية. ويتم وصف الفنتانيل الدوائي لعلاج الألم الشديد، خاصة بعد الجراحة وفي مرحلة السرطان المتقدمة.
الفنتانيل.. أزمة صحية في أمريكا الشمالية
بعد أن كانت رمزا للطفرة التكنولوجية في ولاية كاليفورنيا والعالم، أضحت مدينة سان فرانسيسكو “عاصمة الفنتانيل”، إذ سجلت خلال السنوات الأخيرة معدلات قياسية في حالات الوفيات الناجمة عن الجرعات الزائدة من هذه المادة الأفيونية.
ففي سنة 2023، كان معدلها أكثر من ضعف المعدل الوطني. واحتلت سان فرانسيسكو المركز الرابع في وفيات الجرعة الزائدة بين المقاطعات الأمريكية التي يزيد عدد سكانها عن 500 ألف نسمة.
يعد إدمان الفنتانيل آفة في الولايات المتحدة قضى بسببها 100 ألف شخص بجرعات زائدة، ويشكل السبب الرئيسي للوفيات الناجمة عن المخدرات.
وتقدر مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أن 71 ألف شخص توفوا في الولايات المتحدة بسبب جرعة زائدة من المواد الأفيونية الاصطناعية مثل الفنتانيل في عام 2021، مقارنة بحوالي 58 ألف في عام 2020.
خلال لقاء نظمه مركز الصحافة الأجنبية في واشنطن مؤخرا، أبرزت فاندا فيلباب براون، الخبيرة في السياسة الخارجية لدى مركز (ستروب تالبوت للأمن والاستراتيجية والتكنولوجيا) التابع لمعهد بروكينغز، أن مخدر الفنتانيل يتسبب اليوم في وفيات الأمريكيين (18-49 عاما) أكثر من أي معضلة أخرى تتعلق بالصحة العامة.
وإلى جانب الولايات المتحدة، تشير الخبيرة إلى أن الفنتانيل يطرح تحديات في بلدان الجوار، موضحة أن كندا تعد بدورها متضررة من انتشار آفة استخدام المواد الأفيونية، وكذلك المكسيك رغم عدم توفر معطيات دقيقة بشأن الظاهرة في هذا البلد.
أزمة الفنتانيل.. مثلث شائك
على رأس لائحة “المتهمين” بترويج مخدر الفنتانيل، تضع الولايات المتحدة كارتلات المخدرات في المكسيك، لا سيما “سينالوا” وخاليسكو الجيل الجديد”، باعتبارهما أكبر مزود للسوق الأمريكية بالمادة الأفيونية القاتلة.
مؤخرا، ألقت السلطات الأمريكية القبض على 23 عضوا يشتبه في انتمائهم لكارتل “خاليسكو الجيل الجديد” المكسيكي، بتهم تهريب المخدرات وتبييض الأموال، إذ أكد المدعي العام لهيوستن أن أفراد التنظيم الإجرامي ينشطون في هذه المدينة، بولاية تكساس وفي مناطق أخرى من الولايات المتحدة.
في المقابل، توجه مكسيكو أصابع الاتهام إلى شركات الأسلحة الأمريكية، وت حملها مسؤولية تفشي عنف العصابات على أراضيها.
تلقي الولايات المتحدة باللوم أيضا على الصين، باعتبارها المورد الرئيسي للمواد الأولية.
هذه الأزمة الصحية التي تتقاذفها رهانات جيوسياسية، حذت بهذه البلدان إلى البحث عن حلول ناجعة.
في يوليوز 2023، أطلقت الولايات المتحدة مبادرة التحالف العالمي لمواجهة تهديدات المخدرات الاصطناعية، والذي شهد انضمام أزيد من 90 دولة عبر العالم، من بينها المغرب، بهدف تعزيز التنسيق والتعاون الدوليين، من خلال تسهيل تبادل المعلومات والخبرات، وبغية فهم أفضل لاتجاهات إنتاج المخدرات الاصطناعية وتهريبها وتعاطيها.
وخلال اجتماع ثلاثي في مكسيكو في فبراير الماضي، تعهد ممثلو الأمن القومي في كل من المكسيك والولايات المتحدة وكندا “بزيادة التعاون في مجال مراقبة السلائف الكيميائية والمعدات المتعلقة بإنتاج الفنتانيل، والأسلحة التي تذكي عنف العصابات الإجرامية”.
من جانب آخر، استأنفت الولايات المتحدة محادثاتها مع الصين في مجال مكافحة المخدرات الاصطناعية.
إذ عقد مسؤولون أمريكيون وصينيون اجتماعا في بكين، في يناير الماضي، يعد الأول من نوعه لبحث سبل مكافحة مخدر الفنتانيل، وذلك منذ اللقاء الذي انعقد في نونبر 2023 بين الرئيسين الأمريكي والصيني، والذي التزم خلاله الجانبان بتعزيز التعاون الثنائي في مجال مكافحة المخدرات.
وكانت بكين أعلنت، خلال هذه القمة الرئاسية، استئناف التزامها بالتعاون مع الولايات المتحدة بشأن الحد من تدفق السلائف الكيميائية من الصين.
أزمة الفنتانيل.. رهان انتخابي
مع استفحال آفة إدمان مخدر الفنتانيل وانعكاساتها الوخيمة على المجتمع الأمريكي، تزايد حجم الاهتمام السياسي الذي تحظى به.
فبشكل منتظم، تتطرق جلسات الاستماع الخاصة بمراقبة الحدود، التي يعقدها الجمهوريون في مجلس النواب، إلى قضية تهريب الفنتانيل عبر الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك إلى جانب قضايا الهجرة.
وبرأي العديد من المحللين، أضحت أزمة الفنتانيل بمثابة “سلاح سياسي” قوي، يعكس حجم تأثيرها العميق على حياة ملايين الأمريكيين.
إذ أن ارتفاع الوفيات بسبب الجرعات الزائدة ساهم في تعزيز التقاطب السياسي الذي يشهده المجتمع.
تتسم لهجة الجمهوريين بالحدة لدى الحديث عن أزمة الفنتانيل، إذ يلقون باللوم على سياسة إدارة بايدن “المتساهلة” إزاء الهجرة غير الشرعية وارتباطها الوثيق بمسارات تهريب المخدر.
في تحليلها لهذا الموقف، تعتبر فاندا فيلباب براون أن احتجاج الجمهوريين بشأن “الحدود الجنوبية المفتوحة وغير المحمية وغير الآمنة” لا يجد سندا قويا، موضحة أن معابر الدخول القانونية تعد المنفذ الأكبر لدخول المخدر إلى التراب الأمريكي، حيث يتم جلبه عن طريق الشاحنات المقطورة والسيارات الشخصية، التي يقود غالبيتها العظمى مواطنون أمريكيون، وتحمل لوحات ترخيص أمريكية.
وأضافت الخبيرة أن إدارة بايدن تطالب الكونغرس، ومنذ سنوات، بإقرار ميزانية تسمح بتركيب معدات الفحص، للرفع من عدد المركبات التي يتم فحصها إلى 70 بالمائة بالنسبة للشاحنات المقطورة وحوالي 40 بالمائة بالنسبة للعربات الشخصية.
وبرأي الملاحظين، فإن كيفية تصدي المرشحين الديمقراطي والجمهوري للانتخابات الرئاسية، لوباء جرعات الفنتانيل الزائدة في الولايات المتحدة، ستكتسي أهمية وازنة في الولايات المتأرجحة، التي ستكون لها كلمة الحسم في انتخاب الرئيس الأمريكي في نونبر المقبل.