قدم رئيس الوزراء الفرنسي سيباستيان لوكورنو، استقالته صباح الاثنين إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، وذلك بعد أقل من 24 ساعة على إعلانه تشكيلة حكومته الجديدة، وفق ما أكده بيان صادر عن قصر الإليزيه.
وتأتي هذه الخطوة لتضيف فصلا جديدا إلى الأزمة السياسية العميقة التي تشهدها البلاد، في وقت تواجه فيه الحكومة ضغوطا اقتصادية ومالية غير مسبوقة.
لوكورنو، الذي كان يشغل سابقا منصب وزير الجيوش، تعرض لهجوم واسع من أطراف المعارضة واليمين الفرنسي، فور كشفه مساء الأحد عن التشكيلة الحكومية الثالثة في البلاد خلال أقل من عام.
واعتبرت المعارضة أن الحكومة الجديدة “تفتقر إلى التجديد” وأنها “تكرّس سياسة العجز السياسي” التي يتهم بها الرئيس ماكرون منذ بدء ولايته الثانية.
وكان الرئيس الفرنسي قد كلف لوكورنو في 9 شتنبر 2025 بتشكيل حكومة جديدة، بعد سقوط حكومة فرانسوا بايرو في البرلمان عقب تصويت الجمعية الوطنية بحجب الثقة عنها، على خلفية مشروع ميزانية تقشفية مثيرة للجدل.
المشروع كان يهدف إلى خفض الإنفاق العام استجابة لمتطلبات الاتحاد الأوروبي، لكنه واجه رفضا قويا من الكتل اليسارية واليمينية على حد سواء، ما كشف عن عمق الانقسام داخل المؤسسة التشريعية.
ويبدو أن مصير لوكورنو لم يكن مختلفا عن سلفيه، إذ واجه منذ تكليفه عراقيل سياسية مشابهة لتلك التي أطاحت بـميشال بارنييه وفرانسوا بايرو.
ففرنسا تعيش منذ انتخابات 2024 التشريعية وضعا غير مسبوق، إذ أفرزت صناديق الاقتراع برلمانا منقسما إلى ثلاث كتل كبرى متخاصمة: تحالف الرئيس ماكرون الوسطي، اليمين المتطرف بزعامة التجمع الوطني، واليسار الممثل في جبهة الاتحاد الشعبي. هذا التوازن الهش جعل من الصعب تمرير أي مشاريع حكومية أو تحقيق توافق سياسي مستقر.
وفي الوقت الذي تعاني فيه الحكومة الفرنسية من أزمة ثقة متنامية، تواجه البلاد أيضا أزمة مالية خانقة، إذ كشفت البيانات الرسمية الأخيرة أن الدين العام الفرنسي بلغ مستويات قياسية، ليصل إلى ثالث أعلى نسبة في الاتحاد الأوروبي بعد اليونان وإيطاليا.
وتناهز نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي ضعف الحد الأقصى الذي تسمح به قواعد الاتحاد الأوروبي (60%)، وهو ما يثير قلق المؤسسات المالية الأوروبية والمستثمرين على حد سواء.
أما التشكيلة الحكومية التي أعلنها لوكورنو قبل ساعات من استقالته، فقد ضمّت أسماء معروفة من الحكومات السابقة، أبرزها برونو لومير الذي انتقل من حقيبة الاقتصاد إلى وزارة الجيوش، ورولان لوسكور الذي تولى وزارة الاقتصاد، في وقت كان ينتظر منه إعداد مشروع الميزانية الجديدة للعام المقبل.
كما احتفظ كل من جان نويل بارو بحقيبة الخارجية، وبرونو روتايو بالداخلية، حيث جدّد تعهده بتشديد الإجراءات ضد الهجرة غير النظامية.
وفي خطوة أثارت جدلا واسعا، أبقى لوكورنو على رشيدة داتي في منصب وزيرة الثقافة، رغم مواجهتها محاكمة مرتقبة العام المقبل بتهم تتعلق بالفساد.
كما استمر جيرالد دارمانان وزيرا للعدل، في مؤشر على رغبة الحكومة في الحفاظ على “قدر من الاستمرارية” وسط الأزمات.
غير أن هذه الاستمرارية نفسها كانت أحد الأسباب التي دفعت المعارضين إلى مهاجمة التشكيلة الجديدة، معتبرين أنها تعيد تدوير نفس الوجوه والسياسات.
استقالة لوكورنو تمثل ضربة سياسية جديدة للرئيس إيمانويل ماكرون، الذي يبدو عاجزا عن فرض استقرار سياسي في ولايته الثانية، رغم محاولاته المتكررة لإعادة ضبط المشهد السياسي من خلال التغييرات الحكومية. و
من شأن هذا التطور أن يفاقم حالة الشلل التشريعي، في ظل برلمان منقسم ومشهد حزبي مشتت، مما يطرح تساؤلات جدية حول قدرة ماكرون على تمرير أي إصلاحات مستقبلية، أو إعداد ميزانية الدولة المقبلة في ظل هذه الظروف.
ويرى مراقبون أن فرنسا تدخل مرحلة “ضبابية سياسية” غير مسبوقة منذ عقود، إذ تتراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على وقع انقسام سياسي حاد، بينما يترقب الشارع الفرنسي الخطوة المقبلة من الإليزيه، وسط دعوات بعض الأطراف إلى حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة قد تكون آخر خيار أمام ماكرون لاستعادة زمام المبادرة.
في المقابل، لم يصدر عن الرئاسة الفرنسية حتى الآن أي إعلان رسمي بشأن من سيخلف لوكورنو في رئاسة الحكومة، غير أن مصادر سياسية رجّحت أن يلجأ ماكرون إلى شخصية تكنوقراطية أو توافقية لتفادي انفجار سياسي جديد داخل البرلمان.