يأتي الدخول السياسي الجديد في المغرب هذه السنة، في ظرفية دقيقة تتسم بتقاطع أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية متراكمة، جعلت من المرحلة الحالية لحظة مفصلية في مسار البلاد.
فالمؤشرات المتعددة التي برزت خلال الأشهر الماضية، من احتجاجات متفرقة في المغرب، مرورا بتصاعد نبرة سخط الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، وصولا إلى النقاشات المتجددة حول مستقبل الحكامة والتنمية، كلها عناصر تؤكد أن المغرب يقف على عتبة تحول سياسي واجتماعي لا يمكن تجاهله.
في هذا الاتجاه، يرى الوزير السابق والخبير الاقتصادي عبدالسلام الصديقي، أن الأزمة التي يعيشها المغرب ليست فقط أزمة موارد أو اختلالات اقتصادية، بل هي في جوهرها أزمة سياسية بامتياز.
فالمشكل الحقيقي، وفق الصديقي يكمن في ضعف الحكامة وغياب المحاسبة، وهو ما أدى إلى اتساع فجوة الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم، وإلى بروز جيل جديد من الشباب الرافضين للطرق التقليدية في التدبير السياسي، والمصرّين على إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة من الشفافية والمساءلة.
يؤكد الصديقي أن احتجاجات الصيف الماضي لم تكن مجرد رد فعل عابر على أوضاع اقتصادية أو اجتماعية، بل كانت إنذارا حقيقيا ينبّه إلى حدود النموذج التنموي والسياسي المعتمد.
فالشباب الذين أطلقوا على أنفسهم “جيل Z.212” عبّروا بوضوح عن طموحات تتجاوز المطالب الاجتماعية الكلاسيكية، إذ رفعوا شعارات تتعلق بالإصلاح العميق لمنظومة الحكم ومكافحة الفساد وضمان العدالة والمساواة.
هؤلاء الشباب، كما يقول الصديقي، أظهروا وعيا مدنيا متقدما، وابتكروا طرقا جديدة للتعبير والتنظيم، مستفيدين من فضاء الإنترنت كأداة للتعبئة وبناء الرأي العام.
لكن هذه الحركية الرقمية، وفق الصديقي، يجب أن تنتقل إلى الميدان الواقعي، حتى لا تبقى مجرد موجة افتراضية.
فالمستقبل يقتضي أن يتحول هذا الزخم الشبابي إلى عمل مؤطر ومنظم، إما من خلال تأسيس كيانات سياسية ومدنية جديدة تستجيب لروح العصر، أو عبر الانخراط في البنى القائمة لتجديدها من الداخل. فالمشاركة السياسية الواعية تظل السبيل الأنجع لتأطير المطالب وتحويلها إلى سياسات عمومية قابلة للتنفيذ.
ويرى الصديقي أن الملك، من جهته، التقط بذكاء هذه التحولات المجتمعية، وهو ما عبّر عنه بوضوح في خطاب عيد العرش الأخير، حين دعا إلى “جيل جديد من برامج التنمية الترابية” يرتكز على العدالة المجالية والجهوية المتقدمة، وعلى تفعيل التكامل بين الجهات.
هذا التوجه، حسب الكاتب، يمثل خارطة طريق واضحة لتجاوز منطق “المغرب بسرعتين”، الذي غذّى التفاوتات وأضعف اللحمة الاجتماعية.
غير أن تحقيق هذا الطموح لا يمكن أن يتم في ظل استمرار الممارسات القديمة، من محسوبية وزبونية وتضارب مصالح، التي أفرغت المؤسسات من محتواها وأفقدت السياسة معناها النبيل.
فالمشكل في العمق، كما يؤكد الصديقي، هو أزمة ديمقراطية، إذ لا يمكن اختزالها في مجرد “عملية انتخابية” شكلية، بل يجب أن تشمل جوهر الممارسة السياسية نفسها.
الانتخابات التشريعية لعام 2021، حسب تحليله، كانت نموذجا على “المهزلة الانتخابية” التي أفرزت برلمانا ضعيفا وحكومة يصفها بـ“الانتهازية”، لم تنجح في تقديم إجابات حقيقية على التحديات المطروحة.
ويحذر الصديقي من أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى فقدان ما تبقّى من الثقة في المؤسسات، داعيا إلى إصلاح جذري يعيد الاعتبار للفعل السياسي، ويضمن توازنا حقيقيا بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي.
واسترسل الصديقي، أن النمو، مهما بلغ، لا قيمة له إذا لم ينعكس على حياة المواطنين ولم يساهم في تقليص الفوارق الطبقية والمجالية.
لذلك، يدعو إلى إنهاء “الاقتصاد الريعي والرأسمالية المفترسة”، وإرساء نموذج تنموي قائم على العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
وختم الصديقي تحليله بنبرة تحذيرية ولكنها متفائلة في الوقت نفسه، مؤكدا أن المغرب يملك فرصة تاريخية بفضل طاقاته الشابة الواعدة، شريطة أن يمنح هؤلاء الشباب فضاءات حقيقية للتعلم والمشاركة وتحمل المسؤولية.
فالتحدي الأكبر اليوم ليس فقط في خلق الثروة، بل في توزيعها بعدالة، وفي بناء دولة مؤسسات قوية وشفافة تعيد الثقة للمجتمع.
إن الدخول السياسي لهذه السنة، كما يراه عبدالسلام الصديقي، ليس مجرد بداية موسم حكومي جديد، بل هو امتحان حقيقي لجدية الدولة والمجتمع في تدشين مرحلة جديدة قوامها الحكامة الجيدة، الديمقراطية الفعلية، والعدالة الاجتماعية.
فإما أن نستثمر هذا الحراك الشبابي والاجتماعي كفرصة لإعادة البناء، أو نتركه يتحول إلى إنذار متأخر عن أزمة ثقة لا عودة منها