تظهر المعطيات المرتبطة بسوق المحروقات في المغرب، أن قرار تحرير الأسعار الذي اتخذته حكومة عبد الإله بنكيران قبل نحو عقد من الزمن، ما زال يلقي بظلاله الثقيلة على جيوب المواطنين، وعلى الاقتصاد الوطني ككل.
فبينما كان الهدف المعلن من وراء هذا القرار، هو تحرير السوق وتعزيز المنافسة، وتحويل مخصصات الدعم إلى قطاعات الصحة والتعليم، فإن النتيجة الفعلية جاءت معاكسة تماما، حيث استفادت لوبيات التوزيع من هذا التحرير لتحقيق أرباح فاحشة، فيما ظل المواطن يؤدي الفاتورة الأعلى.
بحسب معطيات توصل بها موقع “إحاطة.ما” من الكاتب العام للنقابة الوطنية للبترول والغاز ورئيس الجبهة الوطنية لإنقاذ المصفاة المغربية للبترول، الحسين اليماني، فالسوق الدولية، وسعر صرف الدولار، وكلفة النقل والتخزين، لا يتجاوز السعر الحقيقي للتر الواحد من الغازوال 5.8 درهم، ولتر البنزين 5.2 درهم.
وبعد إضافة الضريبة على القيمة المضافة، والضريبة الداخلية على الاستهلاك، ترتفع الأسعار إلى 9.1 درهم للغازوال و9.9 درهم للبنزين، وهي الأسعار التي كان من المفترض أن تبقى في حدودها الطبيعية، لو سادت الشفافية والتنافس الحقيقي بين الفاعلين.
لكن الواقع مختلف. فخلال النصف الأول من أكتوبر الجاري، تراوح سعر البيع بمحطات التوزيع بين 10.7 درهم للغازوال و12.7 درهم للبنزين، ما يعني أن الموزعين يحققون أرباحا صافية تصل إلى 1.6 درهم في كل لتر من الغازوال و2.8 درهم في كل لتر من البنزين.
وهذه الأرباح تفوق بأضعاف تلك التي كانت محددة قبل التحرير، حين كانت السلطات العمومية تسمح بهامش لا يتجاوز 0.6 درهم للغازوال و0.7 درهم للبنزين.
وتبرز فداحة الفوارق عند النظر إلى حجم الاستهلاك الوطني. فالمغرب يستهلك سنويا نحو 7 مليارات لتر من الغازوال ومليار لتر من البنزين، أي أن الأرباح الزائدة للموزعين تصل إلى حوالي 9 مليارات درهم سنويا، منها 7 مليارات من الغازوال و2 مليار من البنزين.
وبعد مرور عشر سنوات على التحرير، تكون هذه الأرباح الفاحشة قد بلغت حوالي 90 مليار درهم، وهي أموال ضخمة جمعت من جيوب المستهلكين، دون أن تقابلها خدمات أو استثمارات حقيقية في المرفق العمومي.
الكاتب العام للنقابة الوطنية للبترول والغاز ورئيس الجبهة الوطنية لإنقاذ المصفاة المغربية للبترول، الحسين اليماني، يرى أن قرار التحرير لم يكن سوى بداية لانفلات اقتصادي خطير، أطلق العنان للمضاربة وجعل السوق تحت رحمة قلة من الشركات الكبرى التي تتحكم في الأسعار خارج أي منطق للتنافس الحر.
ويضيف أن ما وعدت به حكومة بنكيران من توجيه وفورات المقاصة لتحسين الصحة والتعليم، تحول إلى نقيضه تماما، حيث شهد المغرب منذ ذلك الحين تسارعا في تفكيك المرفق العمومي، وفتح المجال أمام تغول القطاع الخاص.
ويشير اليماني إلى أن هذا المسار تواصل مع حكومتي العثماني وأخنوش، اللتين عمقتا آثار تلك السياسة، عبر تمرير تشريعات وإجراءات سهلت سيطرة الرأسمال الريعي على قطاعات حيوية.
ويؤكد أن النتيجة اليوم واضحة: تآكل القدرة الشرائية للمغاربة، وتدهور الخدمات العمومية، واستمرار لوبيات المحروقات في جني مليارات الدراهم على حساب المستهلكين.
وفي ظل استمرار هذه الوضعية، يجدد اليماني الدعوة إلى مراجعة جذرية للسياسات الحالية، مطالبا بالتراجع عن تحرير أسعار المحروقات، واستعادة الدولة لدورها في تأميم القطاعات الحيوية وعلى رأسها التعليم والصحة، مع إعادة تشغيل مصفاة “سامير” عبر مقاصة الديون وتحويل ملكيتها إلى الدولة، إلى جانب تخفيض الضرائب على المحروقات وتفعيل العدالة الجبائية عبر ملاحقة المتهربين الضريبيين بحسب ثرواتهم ودخولهم.
إن الأزمة التي يعيشها المواطن المغربي اليوم ليست مجرد نتيجة ظرفية لارتفاع أسعار النفط في الأسواق الدولية، بل هي حصيلة خيارات سياسية واقتصادية خاطئة، جعلت من تحرير الأسعار وسيلة لإثراء القلة وافتقار الأغلبية.
وبينما تزداد الأرباح في خزائن الموزعين، يتعمق العجز في المستشفيات والمدارس، ويستمر المواطن في دفع الثمن مرتين: مرة عند تعبئة سيارته، ومرة عند البحث عن خدمة عمومية لائقة.
تحرير أسعار المحروقات لم يكن إصلاحا، بل كان انفلاتا اقتصاديا مدروسا، جعل من السوق المغربية رهينة لوبيات متغولة، ومن المواطن ضحية سياسات بلا بوصلة.