رسم الدكتور الطيب حمضي، الطبيب والباحث في السياسات والنظم الصحية، صورة دقيقة وواقعية للوضع الصحي بالمغرب، مؤكدا أن الاستثمار في البنايات الصحية ضروري، لكن الأهم هو حسن التسيير.
فرغم الاستثمارات الضخمة التي ضخت في بناء المستشفيات، والجامعات الطبية، وتأهيل أكثر من 1400 مركز صحي، فإن الخدمات الصحية لا تزال، حسب الدكتور الطيب حمضي، دون تطلعات المواطنين.
وأكد الطيب حمضي، من خلال تصريح لموقع “إحاطة.ما”، أن السبب في ذلك، لا يكمن في نقص الأموال أو البنية التحتية، بل في ضعف الحوكمة، ونقص الموارد البشرية، وغياب العدالة المجالية في الولوج إلى الرعاية الصحية.
يرى حمضي أن إصلاح المنظومة الصحية، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال رؤية شمولية ترتكز على أربعة أعمدة أساسية: جودة الخدمات الصحية وتوفرها، القرب من المواطنين، الولوج المالي المنصف، ثم العدالة في التوزيع الجغرافي للخدمات.
وأضاف الطيب حمضي، أن المواطن المغربي لا ينبغي أن ينتظر شهورا من أجل موعد طبي، ولا أن يضطر لقطع مئات الكيلومترات أو بيع ممتلكاته من أجل العلاج.
ويحذر الباحث من أن الاستثمار في الحجر وحده لا يكفي دون إصلاح جذري لمنظومة التسيير. فهناك مستشفيات جاهزة منذ سنوات لكنها لم تفتح أبوابها بسبب عراقيل إدارية أو تقنية بسيطة، في وقت لا تتجاوز فيه نسبة استغلال البنيات الاستشفائية العمومية 60%، وهو ما يعكس خللا واضحا في تدبير القطاع.
ويشير حمضي إلى أن منظمة الصحة العالمية، توصي بتخصيص ما بين 10 و15% من الناتج الداخلي الخام للقطاع الصحي، بينما لا يتجاوز هذا المعدل في المغرب 6%. ويضيف أن المفارقة تكمن في سوء استغلال الموارد المحدودة أصلا، وليس في حجمها فقط.
من جهة أخرى، تطرق الدكتور الطيب حمضي إلى أزمة الموارد البشرية التي وصفها بـ”المزدوجة” لأنها تجمع بين نقص الأعداد وضعف التحفيز.
فالمغرب، وفق الطيب حمضي، لا يتوفر سوى على نحو 30 ألف طبيب، أي بنقص يتجاوز 34 ألفا مقارنة بالمعايير الدنيا التي تحددها منظمة الصحة العالمية.
ومع ذلك، يهاجر نحو 14 ألف طبيب مغربي ويزاولون بالخارج، فيما يعبر أكثر من 70% من طلبة الطب عن رغبتهم في مغادرة البلاد بعد التخرج.
أما بخصوص تأهيل المراكز الصحية، فيرى حمضي أن المشكل لا يكمن فقط في تجهيزها أو ترميمها، بل في مردوديتها وضعف الثقة فيها.
فحتى بعد الإصلاح، تبقى نسبة الإقبال عليها ضعيفة بسبب نقص الكفاءات، وسوء توزيع الأجهزة، وضعف الصيانة.
ويكشف الطيب حمضي، أن نحو 80% من التجهيزات الطبية في المستشفيات العمومية لا تستغل بالشكل المطلوب، وأن جزءا كبيرا منها يركب في أماكن غير مناسبة، أو يهمل عند أول عطل تقني.
ويؤكد الطبيب الباحث في النظم الصحية، أن ضعف جاذبية القطاع العمومي يعد من الأسباب الرئيسة وراء أزمة الصحة في المغرب، موضحا أن القانون الذي يسمح باستقدام الأطباء الأجانب (33.21) لم يكن الهدف منه سد العجز العددي الهائل، بل مواكبة الانفتاح الاستثماري الصحي.
ومع ذلك، فإن المغرب لا يزال غير مغر للأطباء الأجانب ولا حتى لأبنائه، بسبب الظروف المهنية غير المحفزة، وضعف الأجور، وغياب الاعتراف الاجتماعي.
ويرى حمضي أن الرهان الحقيقي اليوم هو الانتقال من منطق “البناء” إلى منطق “الإدارة الرشيدة”، فالمملكة، كما قال، “استثمرت كثيرا في الحجر، لكنها تحتاج الآن إلى استثمار أكبر في البشر وفي الحوكمة”.
وفي تحليله للإصلاحات الجارية، أشار إلى أن الرؤية الملكية منذ خطاب العرش لسنة 2018، رسمت بوضوح مسار إصلاح شامل للنظام الصحي، يرتكز على العدالة، والحكامة، وربط الصحة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
غير أن التحدي الحقيقي، بحسب الطيب حمضي، يكمن في التنفيذ العملي على أرض الواقع، وفي قدرة الحكومة على ترجمة تلك الرؤية إلى تحسين ملموس في حياة المواطنين.
وأضاف أن أربعين بالمئة من المغاربة ما زالوا يحجمون عن العلاج لأسباب مالية، وأن ثلث المستفيدين من التأمين الإجباري على المرض لا يتمكنون من الاستفادة الفعلية من خدماته، ما يعكس استمرار هشاشة تمويل القطاع.
وفي ما يتعلق بالقطاع الخاص، شدد الدكتور الطيب حمضي على ضرورة إعادة التوازن بين العام والخاص، موضحا أن “الخصخصة ليست مشكلة بحد ذاتها، لكن الخطر هو أن يتحول القطاع الخاص إلى بديل للعمومي الضعيف”. فالمستشفى العمومي، في نظره، يجب أن يظل العمود الفقري للنظام الصحي، فيما يضطلع القطاع الخاص بدور تكميلي منظم ومراقب.
وفي ختام حديثه، عبر الدكتور الطيب حمضي عن تفاؤله الحذر بمستقبل المنظومة الصحية في المغرب، مؤكدا أن “الإصلاحات الهيكلية الأخيرة وضعت الأسس الصحيحة”، لكن نجاحها يظل مرهونا بـ”الجرأة في اتخاذ القرار، والقطع مع التسيير التقليدي، وتحفيز الكفاءات، ووضع المواطن في قلب السياسة الصحية”.