“البرّانيّ المتجذّر”: أنثروبولوجيا الضيافة بين النظرية والتجربة

“البرّانيّ المتجذّر”: أنثروبولوجيا الضيافة بين النظرية والتجربة
مراجعة كتاب “البرّاني المتجذر، الانعكاسية المتبادلة: نحو أنثروبولوجية للضيافة”

يشكل كتاب «البرّانيّ المتجذّر، الانعكاسية المتبادلة، نحو أنثروبولوجية للضيافة» للباحث والإثنوغرافي عثمان لكعشمي، الصادر عن منشورات أفريقيا الشرق بالدار البيضاء في ماي 2024، أحد أبرز الإسهامات الجديدة في حقل الأنثروبولوجيا الاجتماعية بالمغرب والعالم العربي.

الكتاب، الممتد على 194 صفحة، هو ثمرة أكثر من عامين ونصف من البحث الميداني والفحص النظري، تتوّج مجهودا علميا دام سبعة أعوام في سبيل بلورة مفهوم أنثروبولوجي جديد للضيافة.

يراهن المؤلف على إعادة التفكير في مفهوم الضيافة خارج الإطار الكلاسيكي، الذي اختزلها في البعد الأخلاقي أو العاداتي، ليقترح مقاربة أنثروبولوجية-فينومينولوجية تستند إلى ما يسميه بـ”البرّانيّ المتجذّر” و”الانعكاسية المتبادلة”.

يتعلق الأمر بالغريب المحلي، ذاك الذي ينتمي إلى المجال ويظل في الوقت نفسه غريبا عنه، وهو ما يفتح الباب أمام فهم الضيافة بوصفها علاقة اجتماعية مركبة، تتأرجح بين القبول والإقصاء، بين الداخل والخارج، وبين المقدس واليومي.

اختار لكعشمي أن ينطلق من حالة دكالة، المنطقة الواقعة على الساحل الأطلسي الأوسط للمغرب، والتي عرفت تاريخيا بكرمها وجودها.

ومن خلال المعايشة الميدانية والتفاعل المباشر مع الفاعلين المحليين، أعاد الباحث بناء تجربة الضيافة كما تمارس وتروى، متتبعا رموزها الثقافية ودلالاتها الاجتماعية.

الضيافة في دكالة، كما يصورها الكتاب، ليست مجرد استقبال للضيف، بل نظام اجتماعي متكامل يقوم على تبادل المنافع والقيم، ويتجسد في ما يعرف بـ”نظام الزرورة” وقانون “الضيافة المقدسة”، إلى جانب حالات خاصة مثل “ضيافة الغضبان”، حيث تتحول الضيافة إلى نقيضها، فينعكس الداخل إلى خارج، والجواني إلى برّاني.

من خلال هذا التحليل الدقيق، لا يكتفي لكعشمي بوصف الضيافة كظاهرة اجتماعية، بل يجعل منها مدخلا لإعادة تعريف موقع الإثنوغرافي نفسه داخل الحقل الذي يدرسه، باعتباره “ضيفا محترفا” يتقاطع وجوده الميداني مع تجربة الضيافة ذاتها.

فـ”الانعكاسية المتبادلة” التي يقترحها ليست فقط أداة منهجية، بل أيضا موقفا معرفيا يربط بين الباحث والمبحوث في علاقة إنسانية متبادلة، تقوم على الاحترام والتبادل لا على المراقبة أو الهيمنة.

في الفصول الثلاثة للكتاب، ينتقل القارئ من التأصيل التاريخي والاجتماعي لضيافة دكالة، إلى التحليل الفينومينولوجي لتجربة الضيافة كما عاشها الباحث، وصولا إلى التأويل النظري المقارن الذي يضع الضيافة المغربية في حوار مع نصوص فلسفية وأنثروبولوجية كبرى، من جاك دريدا إلى مارسيل موس، ومن هوميروس إلى الجاحظ. بهذا المعنى، يتجاوز الكتاب حدود البحث المحلي، ليقترح تصورا كونيا للضيافة يعيد ربطها بأسئلة الوجود والغيرية والمعرفة.

إن «البرّانيّ المتجذّر» ليس مجرد دراسة أكاديمية حول الضيافة، بل مشروع فكري يسائل الحدود بين الذات والآخر، بين العلمي والإنساني، بين الضيافة كقيمة والضيافة كنسق. وهو ما يجعل من هذا العمل إضافة نوعية للمكتبة الأنثروبولوجية العربية، ومحاولة جريئة لتأصيل أنثروبولوجيا مغربية للضيافة، تستمد مشروعيتها من التجربة الميدانية ومن عمق الفكر الفينومينولوجي.

Total
0
Shares
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Related Posts