“حبّ في الداخلة”.. حين تتحوّل الصحراء إلى شاشة تُضيء وجه الوطن

حبّ في الداخلة

جلال مدني

منذ العرض الافتتاحي للدورة الخامسة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، مساء يوم الجمعة 17 أكتوبر 2025 بقصر الفنون والثقافة بعروسة الشمال، خطف فيلم “حبّ في الداخلة” الأنظار واحتلّ صدارة الاهتمام النقدي والجماهيري، حتى قبل أن يُعلن رسميًا عن وجوده ضمن قائمة الأفلام المشاركة في المسابقات الرسمية لهذه الدورة. ولعل القيمة المضافة، التي رآها فيه العديد من النقاد والمتابعين، تتمثّل في تلك القوة الهادئة، التي يعبّر بها الفيلم عن المغرب في أبهى تجلياته الإنسانية والجمالية.

سيناريو الفيلم من توقيع الكاتب والروائي المبدع عبد الإله الحمدوشي، المعروف بقدرته على مزج التشويق بالبُعد الإنساني، فهو يقدّم تصريفا إبداعيا لقصة حبّ استعملها كمدخل لقراءة أعمق في علاقة الإنسان بالمكان، والوجدان بالانتماء. إنّه فيلم يحتفي بالجنوب المغربي، بالصحراء المغربية، بفضاء جغرافي أبدع كل من المخرج خالد براهيمي والسيناريست عبد الإله الحمدوشي في تحويله إلى رمز لامتداد الوطن في تنوّعه وغناه الثقافي، حيث تلتقي الرمال بالبحر، والعاطفة بالفكر، والتاريخ بالحلم…

منذ اللقطة الأولى، تُطلّ مدينة الداخلة ككائن حيّ، كأنها بطلة موازية للفيلم. الكاميرا لا تكتفي بتصويرها، بل تُصغي إلى أنفاسها، إلى هدوئها العميق وإلى ضوئها الذي يفيض بالسكينة. فالمدينة التي أصبحت بوابة المغرب على أفريقيا تُستعاد هنا كجسر بين الماضي والمستقبل، بين الفنّ والذاكرة، بين الهوية والإنسانية.

ففي خضمّ حديث فيلم “حبّ في الداخلة” عن علاقةٍ بين رجل وامرأة، نجد أنفسنا، من حيث ندري ولا ندري، في قلب علاقةٍ بين الإنسان ووطنه، فيتملّكنا ذلك الشعور الدافئ الذي يجعل من كل حبّ مغربي امتدادًا طبيعيًا لحبّ الأرض نفسها. هذه الفكرة، التي تبدو بسيطة في ظاهرها، نجح الحمدوشي في الرقيّ بها إلى رؤية فلسفية رقيقة: أن الحبّ الحقيقي لا يتحقق إلا في فضاء يعترف بالكرامة والجمال معًا، أي في فضاء الوطن.

أسلوب الحمدوشي هنا يذكّر بتجربته الطويلة في كتابة الدراما البوليسية والإنسانية، لكنه في هذا الفيلم يذهب أبعد من المعتاد، إذ يختبر لغة جديدة تنحاز إلى الصورة أكثر من الحوار، وإلى الإيحاء أكثر من التصريح. فالمشاهد لا تُروى بالكلمات، بل بالضوء. كل لقطة تُبنى على توازن بين الصمت والموسيقى، بين الخطوة البطيئة على الرمل ونبض الموج المتكرر في الخلفية، كأنّ الفيلم يكتب قصيدته البصرية الخاصة.

بالموازاة مع هذا المنحى، يبرز الإبداع الفني للمخرج خالد براهمي، الذي نجح في تحويل النصّ إلى لغة بصرية مدهشة، تجمع بين الحسّ الجمالي والعمق الإنساني، فقد تعامل براهمي مع سيناريو الحمدوشي كفضاء مفتوح للتأويل والخلق، فاشتغل على الضوء واللون والزوايا بكثير من الذكاء البصري والهدوء التأملي، وجعل من رمزية الداخلة تتعدّى حدود الخلفية الطبيعية أو المكانية للأحداث لتتجسّد في كيان درامي ينبض بالحياة، يُحاور الشخصيات كما يُحاور المتفرج، خصوصا في اختياره لإيقاع هادئ ومونتاج متناغم مع أنفاس المكان، وكانت النتيجة مذهلة: المخرج والسيناريست ينجحان في صياغة وتلاقح وتناغم كل من الحدث والصورة ليكشفان معا عن الجمال العميق في الإنسان والوطن معا…

تشارك في بطولة الفيلم مجموعة من الوجوه الفنية، التي منحت للعمل صدقه الإنساني وتنوّعه التعبيري، من بينها فاطمة الزهراء بلدي وغيثة برادة، اللتان شكّلتا ثنائيا دراميا متكاملا بين الحسّ العاطفي والعمق الداخلي، فعبّرتا عن هشاشة الشخصيات وقوتها في آنٍ واحد. كما قدّم يوسف بنحيون ويوسف بلدي طه بنعيم ومحمد بوشايت وغالي كريميش والحبيب لوديكي أداء بلمسات مميزة أغنت البنية الدرامية للفيلم ومنحته بعدا جماعيا متناغما…

على المستوى الرمزي، يتقاطع الفيلم مع التحوّل الكبير الذي تعيشه الأقاليم الجنوبية للمملكة. فحين يختار المخرج أن تكون الداخلة فضاءً للحبّ والسلام، فهو في الواقع يقدّم قراءة فنية للرؤية الملكية، التي جعلت من الصحراء المغربية نموذجًا للتنمية والوحدة الوطنية. فالفنّ هنا لا ينفصل عن المشروع المجتمعي، بل يعبّر عنه بطريقته الخاصة: بالصورة والعاطفة والجمال.

لكل ذلك ولغيره من الجوانب الفنية والتقنية والجمالية والإبداعية، فإن ترشيح الفيلم لجائزة المهرجان في الفيلم الروائي الطويل، لم يكن مفاجئا، إذ منذ العرض الأول، أشاد النقاد بجرأته الجمالية، واعتبر كثيرون أنه يمثل خطوة جديدة في نضج السينما المغربية، وانخراطها في قلب المسار الوطني للبلاد، بصيغ فنية مبتكرة، تسعى إلى ترسيخ حضورها كأداة فكرية وثقافية تعيد تعريف صورة المغرب لدى نفسه ولدى العالم.

في أحاديث جانبية لبعض المخرجين والنقاد، الذين تابعوا العرض، نوّهت بنجاح الفيلم في تصوير المكان دون فلكلرة أو تمجيد سطحي، وفي جعل الحبّ كفعل مقاومة ضد الابتذال، تمامًا كما هو حال مدينة الداخلة بما هي موقع تصوير، لكن الأكثر من ذلك والأعمق هي حالة وجدانية تذكّر المغاربة بأن وطنهم يمتدّ من أقصى الشمال إلى آخر موجة تضرب صخور الكويرة، وتُذكّرهم بأن المغرب قادر على أن يروي ذاته بنفسه، لا بعيون الآخرين، وإنما بعيون مبدعيه، الذين جعلوا الحب، في هذا العمل، لا ينتهي بانتهاء القصة، بل يبدأ منها. وفي ذلك دعوة صريحة لأن نرى في الجنوب مرآة الوطن، وفي الفن طريقا إلى الفهم والاعتراف والجمال…

Total
0
Shares
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Related Posts