على هامش المهرجان الوطني للفيلم بطنجة.. عن أي سينما مغربية نتحدث؟

جمال الخنوسي

كشفت لجنة تحكيم الأفلام الطويلة بالمهرجان الوطني للفيلم بطنجة عن جوائزها، ليلة أمس السبت، برئاسة المخرج حكيم بلعباس.

كانت هذه الدورة محطة فريدة من ناحية الشكل والمضمون أيضا. فهذه أول دورة لمدير المركز السينمائي الجديد رضا بنجلون، كما أنها الدورة 25 التي تعبر عن أكثر من ربع قرن من عمر المهرجان. والأهم من هذا وذاك كشفت عن تفاوت بين الأفلام من الناحية الفنية الجمالية ومن الناحية الإنتاجية أيضا.

دعونا ننظر إلى النتائج المعلنة بشكل إحصائي: لقد فاز فيلمان هما ”البحر البعيد” و”في حب تودا” بحوالي %60 من جوائز المهرجان. وهو أمر ليس بغريب أو شاذ. سيتبادر إلى الذهن أن المنافسة الحقيقية كانت بين الفيلمين وبين الرجلين أيضا سعيد حميش ونبيل عيوش. من سيفوز بأهم جائزة وأرفعها؟ الجائزة الكبرى، والإخراج، وثاني دور نسائي، وثاني دور رجالي للفيلم الأول وجائزة لجنة التحكيم، وأفضل دور نسائي، والصوت، والصورة للفيلم الثاني.

غير أن الاسمين في الحقيقة وجهان لعملة واحدة. فبغض النظر عن العلاقة التي جمعتهما؛ إذ أن حميش هو الابن غير الشرعي لنبيل عيوش، وشرب الحرفة في “عليان للإنتاج”، قبل أن يحلق بجناحيه بعيدا عنه. لكنه أخذ عنه الوصفة السحرية ذاتها: موضوع حارق، خلطة استشراق بغيضة، حفنة دعارة، قليل من الاغتصاب، مشاهد فقر وكاريانات. ودع الكل فوق نار هادئة مع فصوص من “الأهالي” ونسائم البؤس والعفن… خلاصة القول: فاز عيوش على نفسه وتفوق التلميذ على الأستاذ.

لن نهتم بالمشاحنات النرجسية التافهة. فما زال في جعبة عيوش الكثير من السهام ولغريمه ذخيرة لا تنضب. ودعونا ننكب على الأهم.

لقد شهدت هذه الدورة مواجهة حقيقية بين هذه النوعية من الأفلام التي يمثلها “الإخوة الأعداء” حميش عيوش المتميزة، بإنتاج ضخم عابر للقارات وانتاجات أخرى “وطنية” صرفة ذات ميزانية هزيلة. الأمر الذي يجعل المنافسة بين الصنفين غير متكافئة. صحيح أن السينما فن وإبداع لكنها دولارات وإمكانيات أيضا.

فالفيلم الفائز بالجائزة الكبرى تقدر ميزانيته حسب الأرقام المتوفرة بـ3,4 مليون أورو (حوالي36,7 مليون درهم = 3 مليارات و672 مليون سنتيم). جمعها حميش بين فرنسا وبلجيكا بواسطة شركته Barney Production وفي المغرب وقطر بواسطة شركته Mont Fleuri. أما فيلم نبيل عيوش فبلغت ميزانيته الإنتاجية حوالي 2,4 مليون أورو (أي 25 مليونا و920 ألف درهم = ملياران و592 مليون سنتيم). إنتاج مشترك شمل خمس دول هي فرنسا (35% من التمويل)، المغرب (26%)، بلجيكا (17%)، هولندا (11%)، والدنمارك (11%).

وكما الخطة الإنتاجية السابقة، تولت شركة Les Films du Nouveau Monde التي يملكها نبيل عيوش في باريس جمع الدعم الفرنسي، وشركته “عليان للإنتاج” التي يملكها في الدار البيضاء الحصول على الدعم من المركز السينمائي المغربي (خمسة ملايين و500 ألف درهم).

هذه الميزانية تمثل أقل بقليل من نصف متوسط ميزانية الأفلام الروائية الفرنسية الحديثة، لكنها تمثل رقما خياليا مقارنة مع الأفلام المغربية المحلية التي غالبا لا تتجاوز 5 أو 4 ملايين درهم.

إن الحديث عن النموذجين: المغربي الصرف مقابل متعدد الجنسيات ليس الهدف منه إقصاء أو ازدراء هذا أو ذاك، فلكليهما كامل الشرعية. لكن الوضع يسائلنا ويسائل سينمانا بشكل أعمق وأبعد:

من يمنح للعالم سرديتنا؟ من يقدم للعالم صورتنا؟ ما هو مستقبل سيادتنا السينمائية؟ من له الشرعية لحكي قصصنا؟

لنسأل بصيغة مختلفة: من يسرد حكاياتنا دون أي يجعل منا فرجة غرائبية؟ ومن يحكي قصصنا دون أن “يبيعها” بالمعنى الربحي المقزز؟

نحن أمام معادلة صعبة إذن: إما سينما وطنية بمواردها المحدودة ومشاكلها الإنتاجية المعروفة، يتم تهميشها في المهرجانات الكبرى، ومع ذلك تصارع من أجل البقاء في معركة سيزيفية، أو سينما احترافية تقنيا، لكنها مقيدة بمنطق اللجن المختلفة وصناديق الدعم المكبِّلة في أوربا والشرق الأوسط، وتوقعات النظرة الغربية الاستشراقية المتلصصة. سينما تنجح في الوصول للعالمية، لكن بأي ثمن؟

في الحقيقة، الإشكال ليس في الإنتاج المشترك، بقدر ما هو في استسهال الوصفة التي تحولنا الى مجرد “أهالي” للاستهلاك. وبالتالي، جعل سردياتنا رهينة لمنطق السوق والأخذ والعطاء والتنازلات، ومهرجانات فرنسا وكندا وإيطاليا وألمانيا… التي تُصفّق للصورة النمطية التي تريد أن تراها عنّا.

في نهاية المطاف، ما جرى في طنجة لم يكن مجرد توزيع جوائز فحسب، بل كان تشخيصا لحالة عويصة، حالة سينما تبحث عن هويتها بين ضغوط السوق العالمية وهشاشة البنية المحلية. وفوز “البحر البعيد” و”في حب تودا” هو انتصار لنموذج إنتاجي محدد، لكنه يُخفي هزيمة أخرى: هزيمة سينما أخرى ممكنة، سينما أقل بريقا ربما، لكن أكثر صدقا وحميمية.

لنواجه أنفسنا بكل صدق وشجاعة: هل نريد سينما تمثلنا أمام العالم كما نحن، بتعقيداتنا وتناقضاتنا وجمالياتنا الحقيقية؟ أم نرضى بأن نكون مادة خام لاستشراق قابل للتصدير يجعل منا مخلوقات سيرك غرائبية؟

إن استعادة سيادتنا السردية ليست رفاهية نقدية، بل ضرورة وجودية لسينما تريد أن تكون أكثر من مجرد سلعة في سوق الصور العالمية.

فتح المزاد والغلبة لمن يدفع أكثر.

Total
0
Shares
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Related Posts