توقفت مباراة الديربي البيضاوي بين فريقي نادي الوداد الرياضي ونادي الرجاء الرياضي، التي احتضنها ملعب المجمع الرياضي محمد الخامس (دونور) بالدار البيضاء، مساء الأربعاء 29 أكتوبر 2025، بعد اندلاع نيران كثيفة واشتعال الشماريخ في مدرجات الملعب، إثر ما يُعرف بـ“الكراكاج” الذي نفذته الجماهير البيضاوية.
وتحوّل المشهد إلى حالة من الفوضى والاضطراب، بعدما غطّى الدخان الناتجة عن النيران أجواء الملعب، وتوقفت المباراة، مؤقتًا، بسبب انعدام الرؤية وخطورة الوضع على اللاعبين والحكام، مما اضطر عناصر الوقاية المدنية إلى التدخل لإخماد النيران والشماريخ وتأمين المدرجات.
ويُعد هذا الحادث الأخطر في تاريخ الديربي البيضاوي، خلال السنوات الأخيرة، إذ يسلّط الضوء من جديد على ظاهرة استخدام الشماريخ والألعاب النارية في الملاعب المغربية، التي أصبحت تمثل تهديدًا حقيقيًا لسلامة الجماهير واللاعبين على حد سواء.
ويأتي هذا السلوك رغم التحذيرات المتكررة من السلطات الأمنية والجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، التي أكدت مرارًا أن إدخال المواد القابلة للاشتعال إلى الملاعب يُعتبر مخالفة خطيرة يعاقب عليها القانون، وسبق أن تسببت مثل هذه الممارسات في إصابات وحوادث مؤلمة في عدد من المباريات المحلية.
ويرى مختصون في علم النفس الاجتماعي أن هذه الأفعال لا تعبّر عن حماس رياضي مشروع، بل تمثل تنفيسًا عدوانيًا جماعيًا ناجمًا عن الاحتقان الاجتماعي والنفسي لدى فئات من الشباب، مؤكدين أن “اللعب بالنار” في الفضاء الرياضي يعكس اضطرابًا في ثقافة التشجيع وغيابًا للوعي بخطورة السلوك الجماعي غير المنضبط.
إن ما وقع في الديربي يفرض على السلطات الأمنية والرياضية فتح تحقيق لتحديد المسؤوليات، واتخاذ الإجراءات القانونية في حق المتورطين، خصوصًا أن تكرار مثل هذه الحوادث يهدد سمعة الكرة المغربية وسلامة ملاعبها، ويؤكد الحاجة الملحّة إلى استراتيجية وطنية للتربية على التشجيع الحضاري والمسؤول، خاصة وأن المغرب ينظم ومقبل على تنظيم تظاهرات قارية ودولية، مثل كأس العالم للسيدات أقل من 17 سنة، وكأس أمم إفريقيا في دجنبر 2025، وكأس العالم 2030.
تشير الظاهرة المتنامية لاستخدام الألعاب النارية أو “الشماريخ” في المدرجات إلى تحوّل التشجيع الرياضي من سلوك ترفيهي منضبط إلى سلوك عدواني محفوف بالمخاطر، يتجاوز حدود المتعة الرياضية إلى مظاهر من العنف الرمزي والمادي.
فعلى الرغم من أن هذه الممارسات تُقدَّم أحيانًا بوصفها “تعبيرًا عن الحماس والانتماء”، إلا أنها في الواقع تعبّر عن اضطراب في الثقافة الجماهيرية الرياضية، وتكشف عن نزعات عدوانية مكبوتة يتم تفريغها في الفضاء العام، كما حدث في عدد من الملاعب الأوروبية واللاتينية، وأخيرًا في حادثة ألمانيا التي تورط فيها مشجعون مغاربة (منتسبون لفصيل الترا أحد الأندية المغربية تجمعوا من مختلف دول أوروبا للاحتفال بذكرى التأسيس) تسببوا في أضرار مادية جسيمة بملعب اصطناعي.
من منظور علم النفس الرياضي والسلوك الجمعي، يُفسَّر هذا النوع من التصرفات من خلال ما يُعرف بـ “التطهير الانفعالي” (catharsis)، حيث يجد الأفراد في العنف الجماعي متنفسًا لضغوطهم الداخلية، خصوصًا عند فئة الشباب الذين يعانون من الإحباط الاجتماعي أو التهميش أو فقدان الإحساس بالانتماء الحقيقي. ويتقاطع هذا السلوك في بعض الحالات مع سمات اضطرابات نفسية مثل اضطرابات التحكم في الاندفاع أو حتى هوس الحرق (Pyromania)، الذي يُظهر فيه المصاب رغبة لا إرادية في إشعال النار كوسيلة لإشباع داخلي أو للتخفيف من توتر نفسي.
في السياق الثقافي والاجتماعي، يلاحظ أن مثل هذه التصرفات أصبحت نوعًا من “الموضة السلوكية” المقلدة من جماهير أمريكا الجنوبية، لكنها فقدت معناها الأصلي وتحوّلت إلى استعراض للفوضى أكثر من كونها دعماً للفريق. بينما في أوروبا، ورغم وجود روابط وفصائل جماهيرية قوية، فإن التشجيع يتم غالبًا ضمن قواعد صارمة تضمن سلامة اللاعبين والجمهور على حد سواء.
إن اللعب بالنار في الملاعب ليس مجرد تهريج أو حماس مفرط، بل يعكس خللاً في النضج النفسي والاجتماعي، ويطرح تساؤلات حول دور الأسرة والمدرسة والإعلام الرياضي في ترسيخ ثقافة التشجيع المسؤول، الذي يقوم على الانضباط، والروح الرياضية، واحترام الآخر.
فالتشجيع الحقيقي لا يُقاس بمقدار الدخان والنار، بل بمدى الوعي والانضباط والمسؤولية الجماعية في حماية فضاء الرياضة كمساحة تواصل راقٍ، لا كمسرح للعنف والعدوان المكبوت.